العزب الطيب الطاهر
بالتأكيد ما جرى فى الخامس من يونيو من العام 1967 – والذى تمر ذكراه الواحدة والخمسين هذا الشهر – هو هزيمة بكل المقاييس لم تنعكس تداعياتها على ما كان يطلق عليه آنذاك ,دول المواجهة وهى مصر وسوريا والأردن, فضلا عن فلسطين جوهر الصراع مع الكيان الصهيونى المغتصب , وإنما أصابت الأمة, كل الأمة, فى جوهر مشروعها القومى, وفى محاولتها للنهوض ,ما أدى الى انكسار عام لهذا المشروع وشعور المنتمين له بحق بأنهم أصيبوا فى مقتل ,ربما من فرط سقف التوقعات الذى كان عاليا وتجاوز ما تمتلكه الأمة من إمكانيات وطاقات , غير أن الهزائم – وفق الحتمية التاريخية – ليس بوسعها أن تفت فى عضد الأمة أى أمة, وإنما يتعين عندما أن تقفز عليها وتتجاوزها من منظورإيجابى, أى الوقوف عند الإخفاقات والأسباب والثغرات التى قادت اليها ثم العمل على احتوائها ,وبناء منظومة مغايرة لما كا ن سائدا, تمهيدا لمحو تداعياتها السلبية والمضى باتجاه تحقيق التحولات الإيجابية, بما فى ذلك دحر العدو التذى تسبب فى هزيمة الأمة .
وعلى الرغم من انتمائى للفكر الناصرى ,دون أن ارتبط تنظيميا بحزب أو جماعة أو حركة , بسبب هشاشة ما هو قائم منها وانخراطها فى سلسلة من الانقسامات والصراعات ,التى أجضهت إمكانية بناء تنظيم حزبى أو سياسى يكون وريثا حقيقيا للفكرى الناصرى, فإننى بعد قراءات متنوعة , ليس بمقدورى أن أتجنب الإشارة الى أن ثمة أسبابا فى بنية الحكم الناصرى آنذاك , أسهمت بدون شك فى وقوع هذه الهزيمة المدوية ,ويحمد فى هذا السياق للزعيم الخالد جمال عبد الناصر إدراكه لهذه الأسباب, الى جانب المؤامرة التى دبرتها أطراف إقليمية وغربية وكشفت عنها الوثائق فيما بعد , فضلا عن ضلوع الكيان الصهيونى فيها بكفاءة عالية, فسارع الى إعلان تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية والعودة الى صفوف الجماهير فى خطابه الشهير فى التاسع من يونيو بعد
واللافت فى خطاب التنحى أن عبد الناصر, بعد أن استعرض المعطيات الخارجية فى حدوث النكسة تساءل: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق – وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة – فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر”
وحسنا فعل الزعيم الراحل , عندما أوضح بجلاء أن قوى الاستعمار تتصور أن “جمال عبد الناصر” هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم – الكلام له – أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر. والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبد الناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر. ولقد كنت أقول لكم دائماً: إن الأمة هى الباقية، وأن أى فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه فى قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية ,ثم شدد على أمر بالغ الأهمية : إننى بذلك لا أصفى الثورة، ولكن الثورة ليست حكراً على جيل واحد من الثوار، وإنى لأعتز بإسهام هذا الجيل من الثوار. لقد حقق جلاء الاستعمار البريطانى، وحقق استقلال مصر، وحدد شخصيتها العربية، وحارب سياسة مناطق النفوذ فى العالم العربى، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولاً عميقاً فى الواقع المصرى أكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطنى، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعى فى مصر، وبنى السد العالى ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادى النيل الشمالى كله، وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل.
وأراد الزعيم ناصر أن يجدد ثقته فى الشعب والقوات المسلحة فى الخطاب ذاته فقال : لقد كان الشعب رائعاً كعادته، أصيلاً كطبيعته، مؤمناً صادقاً مخلصاً. وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجاً مشرفاً للإنسان العربى فى كل زمان ومكان؛ لقد دافعوا عن حبات الرمال فى الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم، وكانوا فى الجو – وبرغم التفوق المعادى – أساطير للبذل وللفداء وللإقدام، والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
ولم يشأ أن ينهى خطابه من دون أن يؤكد على حقيقة مؤداها” إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأية أنانيات أو مشاعر فردية. إن قلبى كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معى، وليكن الله معنا جميعاً؛ أملاً فى قلوبنا وضياءً وهدى”.
ولأن الشعب المصرى أدرك فى هذه اللحظة أن سقوط عبد الناصر والقبول برغبته فى التنحى, يعنى بشكل أوبآخر تحقيق لواحد من أهداف العدوان على مصر, وعلى الأمة العربية فى ذلك الوقت ,فخرج هادرا بملايينه بعد انتهاء الخطاب مباشرة فى القاهرة وغيرها من المدن ,رافضا أن يترجل الفارس عن صهوة جواده وقت المحنة ,كما خرجت الملايين من أبناء الأمة فى غير عاصمة عربية تعلن رفضها لرحيل ناصر, وهكذا حاصرته الضغوط فدفعته للاستجابة لأوامر الشعب العربى ,آه أستخدم الآن هذه العبارة التى تم محوها من خطابنا السياسى والإعلامى ونستخدم بدلا منها الشعوب العربية بينما الحقائق تؤكد أننا شعب واحد .
وانطلق عبد الناصر منذ هذه اللحظة فى عملية إعادة بناء شاملة ليس للمؤسسة العسكرية فحسب ,وإنما لمؤسسات الدولة المصرية منطلقا من عملية نقد ذاتى لما كان يجرى داخلها من نشوء دول داخلها ,وبروز مراكز قوة على رأسها المشير عبد الحكيم عامر ,الذى يعد استمراره على رأس القوات المسلحة بعدما جرى فى العدوان الثلاثى فى العام 1956 واحدا من أخطاء ناصر, فقد كان من الضرورى تغييره بعد النتائج العسكرية لهذا العدوان, بيد أنه أصابته غواية السلطة بعد أن أبقاه ناصر فى موقعه ,وأحاط نفسه بنفر من الرجال الذين شجعوه على توسيع نفوذه, وبناء هالته الخاصة الى الحد الذى أدخلوا فى ذهنه أنه المعادل الموضوعى لزعامة جمال عبد الناصر ,ومن ثم كان من الأهمية بمكان الإقدام على إقالة حكيم حسبما كان يفضل أن يخاطبه ناصر من القيادة العامة للقوات المسلحة, والتى لم يتقبلها فسارع الى حشد هؤلاء النفر من القادة العسكريين الذين تمت إقالتهم معه للعودة الى السلطة عبر إنقلاب عسكرى, كان يدبرونه له فتحرك ناصر بواسطة القائد العام الجديد للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزى لإجهاض المخطط ,ثم انتحر حكيم ,وهنا أود أن أشير الى أننى من المؤيدين لفكرةأنه قتل أو أجبر على الانتحار لكنى منحاز لخيار إقدامه على الانتحار ,لأنه أولا قائد عسكرى لجيش تعرض لهزيمة ,كما أنه وجد نفسه متهما من القيادة السياسية ورفاقه بل وموضعا للتحقيق, وبالتالى لم يعد يرى أن ثمة جدوى من الحياة خاصة أن قادم من جنوب مصر
وتبع ذلك خطوة نوعية تمثلت فى تطهير جهاز المخابرات العامة وإعادة بنائه على أسس احترافية ومهنية, ثم الإعلان عن صياغة التنظيم السياسى القائم فى ذلك الوقت – الاتحاد الاشتراكى العربى -وهو بالمناسبة لم يكن حزبا بالمعنى المألوف , لكنه كان أشبه بوضعية الجبهة الوطنية التى تضم مختلف التيارات وشرائح المجتمع المصرى, ولعل ذلك كان أحد عيوبه الكبرى ,فعبد الناصر كان فى حاجة الى تنظيم حزبى خالص مؤمن أشد الإيمان بفكرالثورة وهو ما انتبه اليه ,وإن كان بشكل متأخر, عندما أسس التنظيم الطليعى فيما بعد وأهم تطور فى هذه الفترة تجسد فى إعلان بيان 30 مارس 1968 والذى شكل بداية لتحولات ديمقراطية ,ربما رؤى تأجيلها بسبب معطيات الإعداد لمعركة التحرير ,لكن البيان على وجه العموم حمل رؤية ناصرية جديدة لبناء الدولة ولمشروع النهوض, وذلك جنبا الى جنب مع مشروع إعادة بناء القوات المسلحة ,وتطهيرها من القيادات المترهلة التى كانت فى مراكزها العليا ضمن شلة حكيم للأسف ,ما هيأها للدخول سريعا فى حرب استنزاف طويلة ضد العدو الرابض على ضفة قناة السويس الشرقية ,متخيلا أنه لن يغادرها, والتى شكلت البروفة العملية لحرب اكتوبر فى العام 1973 والتى تأسست خططها الحربية على ما قام به عبد الناصر والقيادات الاحترافية للقوات المسلحة وفى مقدمتها الفريق أول محمد فوزى القائد العام والفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان عندما كان يتابع بنفسه الاستعدادات القتالية لجنوده فى الجبهة الذين استعادوا روحهم المعنوية العالية ,ورغبتهم الجامحة فى تحرير ما أحتل من أرض وهزيمة عدو لم يتمكنوا من محاربته خلال عدوان يونيو .
هنا تكمن واحدة من تجليات زعامة ناصر, فقد تمكن من تحويل الهزيمة أو النكسة الى نقطة انطلاق جديدة, ولم يتوقف عند أوجاعها الا بالقدر الذى يمكنه من فهمها بعمق تمهيدا للخلاص منها .