شهرية ..مستقلة

الشجرة الساحرة في صحراء ظفار العمانية..حقائق وأساطير

بخورها يطرد الأرواح الشريرة..ومنقوعها يذهب النسيان..وثمارها شفاء من كل داء

0

نيرون يحرق أطنانا من ثمارها على روح معشوقته بربارا

ميناء “سمهرم” في ظفار العمانية مركز التصدير الى أرض الحضارات في مصر وأوربا

موسم الحصاد يستغرق ما بين ثلاث الى ستة أشهر..والضرب العشوائي يصيبها بالعقم؟

هل كانت ثمرتها من بين هدايا ملكة سبأ الى النبي سليمان؟!

قوة الهية تمنع السفن الحاملة لثمار الشجرة المقدسة من الغرق..وتحميها من اللصوص!

تقرير – عاصم رشوان
عرف سكان ظفار العمانية تلك الشجرة الساحرة منذ أقدم العصور لكن إستخدام ثمارها بشكل واسع لم يبدأ إلا فى العصر الحجرى الحديث قبل حوالي ثمانية آلاف سنة ، وقد سلكت قوافل التجارة المحملة بثمارها ـ خلال العصر الإسلامى ـ نفس الطريق التى كانت مستخدمة منذ العصر الحجرى الحديث ، وهى التى أنشأها العرب والرومان مهتدين بنفس الطرق القديمة، وكانت طرقاً معبدة يعود تاريخها إلى عصور قديمة تتعرض للإهمال بعض الوقت ثم يعاد إصلاحها للإستخدام فى أزمان تالية..فما قصة هذه الشجرة..وكيف كانت ثمارها حافزا لرواية الاساطير حولها وعنها..وماهو السر في اعتبارها “نفط العصر الحجري” حيث نشأت على مسارات قوافلها ممالك حملت اسمها؟..وهل كانت تلك الثمار من بين الهدايا التي أرسلتها ملكة سبأ بلقيس الى النبي سليمان؟
….
الحوجري..الاكثر نقاء
شجرة “اللبان” الشهيرة معمرة يصل إرتفاعها إلى حوالي ثلاثة أمتار ، وترتفع من بدء نموها ، ويصعب أحياناً تمييز الساق من الفروع ، وهى تنبت على الطبيعة دون أن يكون للأنسان دور فى تكاثرها نتيجة للظروف المتمثلة فى المناخ الرطب والتربة الكلسية .
ويتوزع نمو أشجار اللبان على طول حزام يمتد بالتوازي مع الساحل أخذاً فى الإتساع حيث يبلغ عرضه ثمانية كيلو مترات يضيق فى الناحية الغربية إلى الشمال من رأس فرتك ..ومن أهم أنواع اللبان “الحوجري” الذي تنمو أشجاره فى الأجزاء الشرقية من محافظة ظفار متميزا بنقاء لونه الأبيض المشرب بالزرقة وخلوه من الشوائب ، ويعتبر أجود الأنواع وأغلاها سعراً ..ويأتى اللبان “النجدى” فى المرتبة الثانية نسبة إلى منطقة نجد الواقعة خلف جبال الخريف الظفاري المعروف.
فى أوائل شهر إبريل من كل عام ، وما أن تميل درجة الحرارة إلى الإرتفاع ، حتى يقوم المشتغلون بجمع ثمارها “بتجريح” الشجرة فى مواضع متعددة تتراوح بين عشرة وثلاثين موضعاً ـ حسب حجم الشجرة ـ وذلك بواسطة أداة صغيرة يسمونها “المنقف” التي هى آلة ذات يد خشبية ورأس حديدى حاد مستدير الشكل .
الخبرة مطلوبة
الضربة الأولى للشجرة يسمونها “التوقيع” ، ويقصد به كشط القشرة الخارجية لأعضائها وجذعها يتلوها نضوح سائل لزج حليبى اللون سرعان ما يتجمد فيتركونه هكذا لمدة 14 يوماً تقريباً بعدها تبدأ المرحلة الثانية من إستخراج الثمار من المواقع المكشوطة فى عملية “التوقيع” ..والسائل الذى ينضح يتم كشطه إلى الأرض حيث تبدأ عملية التجريح الثانية.
أما الجمع الحقيقى فيبدأ بعد أسبوعين من “التجريح الثانى” حيث ينقرون الشجرة للمرة الثالثة ..وفى هذه الحال ينضح السائل اللبنى ذو النوعية الجيدة الذى يعد تجارياً من مختلف الجوانب ، ويكون لونه مائلاً للصفرة ثم يبدأ فى التجمد إما على الشجرة نفسها أو يسقط منها على الأرض ” إذا كانت الشجرة غزيرة الإنتاج” .. وإن كانت الضربة الأولى يسمونها “التوقيع” فالضربات التالية يطلقون عليها إسم “السعف” .
وضرب أشجار اللبان ليست عملية عشوائية إنما هى بحاجة إلى مهارة فنية خاصة وخبرة فقد يؤدى الخطأ فى عملية الضرب إلى إصابة الشجرة “بالعقم” .. وهكذا فالعامل لابد أن يحذر من إصابتها فى “اللب”، وأن تختلف ضرباته من شجرة إلى أخرى حسب حجمها .
موسم الحصاد يستمر لمدة ثلاثة أشهر ، وأحياناً يمتد الى ستة من ابريل إلى اكتوبر من كل عام ، حيث يتم تجميع هذه الثمار بشكل دورى منتظم فى سلة مستديرة من الخوص يسمونها باللهجة المحلية “قفير”..عشرة كيلو جرامات تقريباً هو متوسط إنتاج الشجرة الواحدة من الثمار ، وهناك أشجار أخرى تنتج عشرين كيلو جراماً .
طاردة الأرواح الشريرة
سكان محافظة ظفار يستخدمون ثمارها فى ماء الشرب حيث يضعون ثلاثة أو أربعة فصوص فى قدح الماء من المعتقد أنها تساعد على “الإدرار” ، كما أنها تجعل الماء بارداً ونقياً فى أوقات الصيف .
أهل النجد ـ بدو الصحراء الظفارية ـ يستخدمونها بخوراً على الدوام فى السابق فى أماكن تجمع الماشية لإعتقادهم بقدرتها على إبعاد الأذى عنها ، كما يستخدمونها فى منازلهم ايضاً لتعطيرها وظناً منهم بأنها تطرد الأرواح الشريرة .
ومن بين التقاليد المعمول بها فى محافظة ظفار مايحدث عند الزواج الأول للرجل حيث يعدون المباخر الضخمة من الفخار يحملونها عادة فوق الرؤوس يملأونها بكمية من الرماد توضع فوقه جمرات من الخشب المحترق ثم تلقى عليها فصوص من ثمار اللبان تذوب ويتصاعد البخور منتجاً رائحة منعشة ومحببة ..وعادة ما تحمل المباخر خادمات يدعين لهذه المناسبة حيث يطلقن الزغاريد خلف زفة “المعرس” .
وفى حالات الولادة ، هناك إستعمال آخر لثمار اللبان فى محافظة ظفار حيث تكون المبخرة على مقربة من مهد المولود لإعتقادهم بأنها تعطر الغرفة وتطرد الروائح الكريهة .
وفى مدينة صلالة ـ بمحافظة ظفار أيضاً ـ جرت العادة بأن إطلاق البخور على باب المنزل ـ فى الصباح الباكر ـ يجلب السعادة للأسرة طوال ذلك اليوم . وهم يحرصون على وجود قدر من هذه الثمار فى المنزل تصونه من الأذى وتدفع عنه المضار من “الهوام” ، وهو إعتقاد صحيح يعززه نفور الحشرات السامة من رائحة هذه الثمرة العجيبة .
علماء العرب يثقون فى ثمرة اللبان الظفارى حتى أن “إبن سينا” يقول بأنها تداوى جميع الأمراض – أمراض البطن والقلب والربو وأشياء أخرى كثيرة – كما أنها فوق ذلك توقف النزيف الداخلى والخارجى وتذهب أورام الطحال وآلام المفاصل وكذلك فإن شرب منقوع اللبان يزيد من جلاء الذهن وصفائه ويذهب النسيان .
هدايا ملكة سبأ
وقد جاء ذكر ثمار شجرة اللبان كأكثر البخور الموصوفة في التلمود، وهو كتاب يعني بدراسة التعاليم اليهودية فيه الكثير من التراث اليهودي والقصص الموثقة، حيث يذكر أنه كان يجري تحضيره أمام الهيكل المقدس في خدمات الاحتفالات دائمًا. وأن النوع النقي هو الذي كان يقدم في الغالب مع الخبز أثناء ترتيل كلمات النبي سليمان.. كما ورد في التوراة أن هدايا ملكة سبأ للنبي سليمان – عليه السلام – كانت ذهبا أبيضا..ويقصدون به هنا ثمار شجرة اللبان المشتقة لغويا بالعربية من اللبن؟!
كما استخدم لبان هذه الشجرة في الكنيسة الكاثوليكية تحديدًا، وما زالت، بالإضافة إلى الكنائس المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، وكذلك الأديان السماوية الاخرى، حيث كانوا جميعًا يستعملونه مختلطا بالزيت كشراب للشفاء والعافية للأطفال والكبار المرضى لما قيل عن مادته بأنها تجعل العظام متماسكة بعد الدعاء للمرضى.
دخل اللبان مع التوابل إلى أوروبا منذ العصور الوسطى عن طريق اليونان ليتحول اسمه من اللبان باللغة العربية إلى “ليباني” في اللغة اللاتينية..وفي اليونانية إلى “ليبانوس” أو “ليبانوتوس” لكن يبقى مصدر الاسم عربيًا “اللبان”..وهي شجرة لاتزرف دموعها البلورية “ثمارها” إلا حين تكون بين الثامنة والعاشرة من عمرها، فيتم الحصول على إنتاجها عطرًا وجمالا وشفاء للناس!
ظفار أرض اللبان
هذه الشجرة الأسطورة المانحة للبخور برائحته الزكية على مدى تلك القرون الطويلة أصبحت عن استحقاق شعارا لمحافظة ظفار العمانية باعتبارها موطنها الأصيل ..وهي تدخل في استخدامات طبية وفكرية وعلاجية بدليل استخدام لبانها في المساجد والكنائس والمعابد كنوع من التطهير لتمر بعدها بمسارات فكرية مختلفة، بعد أن نمت علاقة خاصة بين “الإنسان والشجرة” التي كانت يوما مصدرا اقتصاديا هاما قامت على أساسه ممالك اللبان ما جعلها تشكل تجسيدا ثقافيا وتاريخيا وجغرافيا واجتماعيا .
المؤرخ والباحث العماني عبد القادر الغساني – رحمه الله الذي كنت التقيته بداية تسعينات القرن الماضي في مدينة صلالة وهو صاحب كتاب “ظفار أرض اللبان” – ذكر أن الإسكندر الأكبر، بعد أن استولى على جزيرة العرب والخليج العربي، استورد كميات هائلة من البخور من الأراضي العربية حيث كانت ظفار العمانية معروفة بهذه الشجرة منذ زمن سحيق..كما أن الإمبراطور الروماني “نيرون” أحرق أطنانا من ثمار شجرة اللبان على روح زوجته – أو عشيقته – بربارا.
وتشير الدلائل الاثرية الى ان اللبان كان من اقدم السلع المصدرة من ظفار العمانية الى العالم منذ العصر الحجري،وتعاظم الطلب عليه في العصور التاريخية اللاحقة.وكان يستخدم في ممارسة الطقوس الدينية حيث يحرق كقربان للالهة عند إقامة هذه الطقوس او أدائها.وكذلك طقوس الدفن ،كما يستخدم لتطهير البيوت ويدخل في صناعة الادوية.. وفي عهد أسرة “أور” الثالثة في بلاد الرافدين كانوا يطلقون عليه اسم”شيم”!
وتوجد في المعابد الاشورية أعمدة عالية يوضع عليها اللبان تفصل بين الملك والاله من جانب وبين رعاياه من جانب أخر!
نفط العصر الحديدي!
أما الفرس فقد استخدموه في عباداتهم.ويقول المؤرخ الاغريقي “هيرودتس” الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ان “داريوس” كان يتلقى سنويا هدية من اللبان يعادل وزنها أربعة وعشرين طنا..وهي الصورة المثيرة التي اوجدت شغفا شديدا لدى الاغريق والرومان لمعرفة مكان هذه السلعة المقدسة…وهو ما يؤكد بان اللبان كان من ابرز واهم عناصر التجارة الشرقية خلال العصر الحديدي حيث عاشت مملكة ظفار التي كان لبانها افضل الأنواع عالميا يطلقون عليه آنذاك اسم “بوسويليا ساكرا”..ولشدة الطلب عليه تحركت الاساطيل ووقعت الحروب من اجل السيطرة على مصادره حيث احتكرت بلاد العرب الجنوبية تجارته..وانحصر انتاجه في الإقليم الجغرافي الممتد من “حاسك” شرق ظفار العمانية الى وادي “حبان” في اليمن.
كان سعر اللبان في عصر المؤرخ الروماني “بليني” في القرن الأول الميلادي مكلفا جدا..وذلك يرجع الى المسافة البرية الطويلة التي تضطر لقطعها “قوافل اللبان”..فالرحلة البرية الى البحر المتوسط كانت تمر بحوالي خمسة وستين محطة برية يدفع خلالها أصحاب القوافل ثمن الحصول على الماء والعلف والحشائش للجمال ،وكذلك اجر المبيت ورسوما أخرى مقابل المرور والحماية.
ويشبه الغساني رحمه الله “لبان ظفار” قديما بنفط الخليج حديثا..فقد قامت على مساراته البرية ممالك حققت ثروات طائلة من حركة القوافل المحملة بثمار اللبان!
القوة الالهية
وكان ميناء “سمهرم” الواقع في ظفار جنوب سلطنة عمان مشهورا عبر تاريخه بأنه نقطة تصدير اللبان منذ القرن الأول الميلادي إلى أرض الحضارات الأولى في اليمن ومصر وأوروبا – المتمثلة آنذاك بروما – ماجعل منه ميناءً تجاريًا هاماً يكتسب مكانته ونفوذه بتصديره اللبان إلى الشرق والغرب..
ومن الجدير بالإشارة في هذا السياق أن البضائع المتأخرة عن موسمها كانوا يراكمونها في العراء وقت دخول وخروج السفن بلا حراسة للاعتقاد بأن ثمة “قوة إلهية” تحميها بفعل وجود تلك الحبيبات المقدسة من اللبان، كما ذهب اعتقاد هؤلاء قديما الى أن السفن المبحرة باللبان لن تغرق ما جعلهم حريصين على وضع كمية – ولو صغيرة – من تلك الثمرة المقدسة!

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق