شهرية ..مستقلة

سياسة سلطنة عمان الخارجية واحترام استقلال الدول والشعوب

0

سياسة عمان الخارجية تجاه التعاطي مع القضايا العربية بشكل عام لم تكن يوما عبر تاريخها الطويل مدفوعة بالانفعالات الوقتية والعشوائية التي – وللأسف الشديد – لاتزال تلقي بظلالها على أجواء العلاقات العربية – العربية بين الحين والأخر.. كما أنها لم تكن أداة لتنفيذ أجندات إقليمية أوعالمية من أي نوع.. انما ظلت دوما قابضة على مبادئها الثابتة القائمة بشكل عام ورئيسي على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية للأخرين بنفس القدر من عدم السماح للأخرين بالتدخل في شئونها. منطلقة في شأن التعامل مع مصر على وجه التحديد من حقيقة أمنت بها عبر السنوات الخمسين الماضية من العلاقات الدبلوماسية الحديثة – وكان يرددها جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد وأظنها حاضرة أيضا لدى خليفته الأمين جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور أل سعيد – مفادها أن مصر هي “عمود الخيمة العربية”.. وأن المساس بأمنها واستقرارها يعني مباشرة النيل من أمن واستقرار العرب أجمعين على هذا الامتداد الجغرافي الشاسع من المحيط الى الخليج بكل تفاصيله الديموغرافية المتنوعة ومعطياته الاقتصادية الهائلة.. الأمر الذي يعني بالضرورة حيوية الحفاظ على سلامة مصر واستقرارها بكل الوسائل الممكنة باعتباره قضية وجودية لكافة الأقطار العربية.. وربما في مقدمتها دول الخليج العربية.
وان كانت مواقفها في هذا السياق يصعب احصاؤها، فلعل أبرزها سياسيا – والذي لن تنساه مصر الرسمية والشعبية على حد سواء – رفضها لقرارات قمة بغداد المسماة في حينها “قمة الصمود والتصدي” أواخر سبعينيات القرن الماضي ،والتي انتهت الى قطع العلاقات مع مصر ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس “عقابا” لها على توقيع الرئيس الراحل السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل ..وحينها استعصت عمان ،بل وباركت الخطوة المصرية متحملة كل السخافات وحتى البذاءات سواء على مستويات رسمية أو إعلامية موجهة.. لكن السنوات تمضي سريعا لتثبت بأن الموقف العماني كان صائبا في التوقيت المناسب بعد أن أصبحنا نعيش عصر “الهرولة والتفاخر” بالتطبيع مع إسرائيل!
وأبرزها اقتصاديا ذلك الموقف الحديث نسبيا من خلال ما قدمته من دعم “معلن” أثناء مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي قبل سبعة أعوام.. وهو ما اعتبرته حينها واجبا قوميا وليس منحة يتبعها “المن والأذى”.. وهو الموقف الذي كان كاشفا لمصداقية القناعات العمانية في التعامل مع مصر أيضا.. فعلى الرغم من مرورها أنذاك بمعاناة اقتصادية بالغة القسوة بفعل موجات التراجع السعري للنفط والغاز – الذي هو متواضع الإنتاج أصلا في عمان اذا ماقيس بدول خليجية أخرى ما أدى الى تدهور إيراداتها من هذا المورد الذي لايزال محوريا – على الرغم من ذلك كانت حاضرة وفاعلة وكريمة “تؤثر على نفسها ولوكان بها خصاصة”.. فتلك عمان النبيلة في مواقفها كما عرفها المصريون.. وهي عمان العروبة.. صاحبة التوأمة الحضارية مع مصر القديمة.. والحديثة أيضا.
ومن بين أهم القناعات المحددة لمسارات السياسة العمانية تجاه مصر هو ايمانها العميق بأن دورها التاريخي يستحيل لغيرها أن يلعبه.. وأن أية محاولات “للسطو” على هذا الدور بأساليب وطرق التفافية متعددة سيكون مصيرها الفشل الذريع، ذلك لأن الأدوار يصنعها التاريخ وتعززها الجغرافيا.. ولا تصنعها حفنة من المليارات ..وان تكاثرت.. فهي ليست سلعة معروضة في المزاد لمن يدفع أكثر!
وأحسب أن من بينها أيضا ذلك النهج الذي تعتمده السياسة الخارجية العمانية دائما في التعاطي مع العلاقات البينية العربية باعتبارها من الثوابت التي لا يجوز العبث في نسيجها أو تمزيقه ارضاء لنزعة الغضب أو نزوة المصالح أو شهوة الأطماع الضيقة.. وجميعها متغيرات عابرة لا يمكن اعتمادها أو الوثوق بها كعنصر فاعل وقاعدة للتأسيس عليها لأنها مبنية على “جرف هار” يجعل من هذا البناء كيانا أيلا للسقوط باعتباره مخالفا لكل القواعد التي هندسها التاريخ وعززتها الجغرافيا ورسختها العقيدة ولسانها العربي المبين.
وان كانت تلك مجرد عناوين فقط لما تنبئنا به صحيفة الحالة الدبلوماسية العمانية – المصرية على مدى نصف القرن السابق فان التفاصيل تحدث أخبارها في كل رقعة من الوطن العربي الكبير عن مواقف عمان الواعية والناضجة والخالدة التي أصبحت يشار اليها بالبنان باعتبارها نبعا للحكمة والتقدير السليم للمسار الصحيح عند مفترق الطرق التاريخية.
وعلى الرغم من احتفالنا سويا بذكرى مرور خمسين عاما على العلاقات الدبلوماسية الحديثة بين البلدين الشقيقين، الا أن نوعية أخرى من العلاقات التي لاتقل في عمقها ونبلها وعطائها تستحق الإشارة وتستوجب الإشادة.. انها تلك العروة الوثقى بين مؤسسة الأزهر الشريف والمؤسسة الدينية في عمان.. والتي تعد بحق قدوة تضئ منارتها مرافئ التسامح والوسطية للسفن الفكرية التي ضلت طريقها الصحيح وسط متغيرات كونية عاتية.
ليس هذا فحسب، فهناك نماذج عديدة للارتباط الوجداني بين المصريين من جانب وسلطنة عمان – أرضا وشعبا وسلطانا – من جانب أخر.. وفي هذا الشأن تحضرني واقعة عايشتها بنفسي تتعلق بأكاديمي وفنان وناقد وموسيقي هو المرحوم الدكتور يوسف شوقي – وكيل وزارة الثقافة المصرية الأسبق – الذي عاش في مسقط ما بين عامي 1983م حتى أواخر العام 1987م عمل خلالها على توثيق التراث الموسيقي الشعبي العماني مؤسسا لمركز عمان للموسيقى التقليدية الذي أصبح لاحقا من بين المؤسسات العالمية المنضوية تحت مظلة منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.. وقد كرمه جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد شخصيا تقديرا لعطائه ومجهوداته فوق الاعتيادية بمنحه وسام عمان من الدرجة الثانية.
هذا الرجل أوصى قبيل وفاته بدفن جثمانه في التربة العمانية موثقا عشقه لها “حيا وميتا”.. ففي العشرين من نوفمبر 1987م توفي الدكتور يوسف شوقي الذي حرص أبناؤه على تنفيذ وصيته حيث تم مواراة جثمانه التراب العماني.
تلك الواقعة الإنسانية البسيطة بحد ذاتها ..العميقة في مدلولها تشكل باعتقادي فصلا واحدا من سفر كامل عنوانه خلود العلاقة بين البلدين.
لكن ذلك كله لا يمنعنا من الطموح الى المزيد من تعزيز هذه العلاقات بالقدر الذي يليق بتاريخها وعمقها.. ولعل زيارة فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي لمسقط صيف هذا العام تكون مقدمة لدفعة قوية في هذا المسار.. كما يحدونا الأمل أن تكون زيارة جلالة السلطان هيثم بن طارق المرتقبة لمصر – ربما خلال النصف الأول من العام القادم – هي الأخرى قاطرة بذات الاتجاه.
في هذا الكتاب “التذكاري” نستهدف تقديم قراءة موضوعية للعلاقات بين التوأم الحضاري مصر وعمان بأطيافها المتنوعة .وذلك بمشاركة نخبة من الخبراء والمتخصصين وكبار الكتاب والصحفيين.
حفظ الله عمان عزيزة شامخة.. وعاشت مصر أمنة مستقرة.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق