شهرية ..مستقلة

سوق الحميدية بين أحضان قلعة دمشق وبركات الجامع الأموي

0

دمشق/ عبير نداف

يضم عشرين سوقا تخصصية فرعية يحمل كل منها  اسم حرفة

عمره مائتان وثلاثون عاما..وبائع العرقسوس أبرز معالمه الباقية

أقدم الأسواق المسقوفة في العالم ..كتبوا فيه أشعارا..وتغنى به أشهر المطربين

سوق “الموسكية”..و بقايا معبد وثني اغريقي بقاياه أعمدة مرمرية تزينها كؤوس من الرخام وبوابة أثرية

بكداش يصنع “البوظة” بالطريقة القديمة المتبعة منذ أكثر من مائة عام..أشهر زبائنه أم كلثوم وعبدالوهاب ..وبيل كلينتون

هل زرت  دمشق ؟ وهل زرت سوق الحميدية؟ اذا كان الجواب بالإيجاب فيما يتعلق بدمشق، وبالنفي بالنسبة لسوق الحميدية فهنا أقول لك كأنك لم تزر دمشق!!

لا تكتمل زيارتك لدمشق إلا بزيارة سوق الحميدية أشهر الأسواق التراثية في الشرق ، وأحد أقدم الأسواق المسقوفة في العالم ، والذي تغني به الشعراء وأشهر المطربين. حيث يعتبر أحد أبرز معالم مدينة دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، ويشكل معلما أساسيا من أشهر معالمها رغم حداثته قياسا بعراقتها وقدم معالمها وآثارها.

قناطر معلقة

يبدأ مدخل سوق الحميدية من شارع النصر أحد أشهر شوارع دمشق الحديثة، وينتهي أمام الجامع الأموي  بطول 600 متر، وبعرض خمسة عشر متراً، تميزه القناطر المعلقة، ويصطف على جانبيه عدد من الأعمدة الأثرية، أرضيته مبلطة بالبازلت الأسود، وسقفه مغطى بألواح معدنية مقوسة من التوتياء والحديد، فيها ثقوب تنفذ منها أشعة الشمس، لتبدو خيوطاً ذهبية تنساب برفق؛ مانحة الدفء شتاء وكاسرة عتمة السوق نتيجة تغطيته، بعد أن حلت هذه الألواح محل الخشب الذي استبدل في عهد الوالي حسين ناظم باشا، تفادياً للحرائق التي كانت تنال منه.

توأمة مع سوق الموسكي

سوق الحميدية الذي كان له نصيب وافر في كتب الرحالة الذين زاروا دمشق والشرق بشكل عام، فما من أحد رآه، إلا وفتن بأصالته التي تسر الناظر وتنقله إلى عالم التراث الدمشقي الأصيل، فوصفوه أجمل الأوصاف، متحدثين عن اتساعه وعن كونه مدينة تجارية صناعية مصغرة في قلب دمشق، وبأنه سيد الأسواق وأعرقها وأكثرها روعة، وهو معمل دائم للحرف والأعمال اليدوية العريقة. إذ يعد عصب الحياة الأساسي للمدينة القديمة،  فقال عنه المؤرّخ الدمشقي أكرم العلبي: “يضاهي سوق “الحميدية” بجماله وتألّقه سوق “الموسكي” الشهير في القاهرة”، حيث تُباع فيه كافة أنواع البضائع من كل صنف ولون وأهمها الصناعات التراثية مثل المصنوعات النحاسية والأرابيسك والمصدفات والأقمشة بكافة أنواعها الحريرية والقطنية والمطرزات وكافة أنواع الملابس الجاهزة وأدوات الزينة والأحذية.

بين روايتين

حمل السوق اسمه الحالي منذ بنائه، وقد تضاربت الآراء حول سبب التسمية: الرواية الأولى تقول إن سبب تسميته بـ”سوق الحميدية”وجود “المدرسة الأحمدية” فيه، وهي المدرسة التي كانت موجودة في موقع جامع الحميدية اليوم  أما الرواية الثانية، وهي الرواية الأكثر انتشاراً، فتعتمد على أن أصل التسمية هو نسبة للسلطانين اللذين بنياه، اذ إن سوق الحميدية في دمشق بني على مرحلتين، المرحلة الأولى كانت في عام 1780 في عهد السلطان عبد الحميد الأول وفي هذا المرحلة امتدت السوق بين باب النصر الذي يقع في مدخلها الحالي وبين مدخل سوق العصرونية، وقد سميَّ هذا الجزء من السوق حينئذ بالسوق الجديدة، لأنها كانت قد شُيدت مكان سوق شعبي قديم كان يسمى بسوق الأروام. أما المرحلة الثانية من البناء فقد تمت في عام 1884 وذلك في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وكانت محاولة جادة وهامة لتوسيع السوق الجديدة، وفيها زاد امتداد السوق مسافة طويلة من نهاية السوق الأول أي من باب العصرونية وحتى نهاية السوق الحالي أي حتى نهاية باب البريد  و قد جُددت محال هذا السوق قليلا في سنة 1988، وعلقت في سقفه أشكال تشبه الثريات. وذلك بعد أن زاد الاهتمام العالمي به. أما في عام 2000، فقد تم الكشف عن الأعمدة الأثرية البازلتية القديمة إلى خارج المحال، لأهميتها الأثرية. .  ومنعت السيارات من السير به ليقتصر التنقل به سيرا على الأقدام.

تمثال صلاح الدين

وبعيدا عن المحال التجارية المختلفة ، يحيط بالسوق عدد من الأوابد الأثرية والتاريخية ،فعلى يسارها وانت تدخل بوابته من شارع النصر الشهير في دمشق، تقع قلعة دمشق الشهيرة التي يتقدمها تمثال البطل التاريخي صلاح الدين الأيوبي وضريحه الذي يقع بين سوق الحميدية وبين حي العمارة التاريخي في دمشق القديمة ، وقبل أن يصل زائر سوق الحميدية إلى أعمدة جوبيتير الضخمة الباسقة ينحرف ليجد صرحا ثقافيا كبيرا لايزال شاهدا على كون دمشق الشام أهم حاضرة من حواضر الثقافة والعلم والمعرفة والصناعة والتجارة في الشرق على مر العصور ، فتجد المكتبة الظاهرية التي بناها الظاهر بيبرس أبان فترة حكمه لدمشق ، وتجد جوامع ومساجد أثرية ومباني تاريخية هامة ، ولاشك أن التاريخ كان هنا فأنت تشاهد التاريخ وعبق الزمان في كل مكان من هذا السوق العريق,الذي تعرض الى الكثير من الحرائق التي كانت توشك على القضاء عليه لكنه لا يلبث ان  ينهض من جديد .

ففي هذه الأماكن تتجمع متطلبات الناس اليومية بكل صغائرها ويمكنك ان تمر بها في وقت قصير, لكن أثرها سيدوم طويلا في التي ذاكرة الانسان التي تحتفظ  داخلها بكل ما هو جميل وغريب ونادر, فكثير من الصناعات لا تراها  في هذه الأسواق, وكثير من تفاصيل  الماضي وحتى وجوه البشر المختلفة لا تلتقي بها مجتمعة إلا في هذه الأماكن.

بائع العرقسوس

وقد يستغرب البعض ممن لم يز ر السوق، أو يجد الأمر طبيعيا بل محببا لديه من زاره ويعرفه، أن بائع العرقسوس واحد من معالم سوق الحميدية لا يستطيع أي زائر للسوق أن يتجنب كرمه، فهو رجل يرتدي قفطاناً دمشقياً مزركشاً بخيوط ملونة ( زيه التقليدي ) ولغة التخاطب والتواصل بينه وبين زوار السوق هي “قرقعة” الأطباق النحاسية لجذب الانتباه إليه، وإلى عصائره ومرطباته العذبة خصوصاً في فصل الصيف، بأكواب ملتفة حول خاصرته .كاشفاً التراث الحقيقي والبيئة الدمشقية العريقة التي تعم أرجاء السوق، الأمر الذي دفع بعض المطربين إلى التغني به وإنشاء أغانٍ تراثية مرتبطة به لأنه ملجؤهم في العثور على تفاصيل حياتهم التراثية.

كما يتحول السوق في شهر رمضان اسوة بأسواق دمشق القديمة  إلى تظاهرة رائعة ومهرجان يعكس جماليات الشهر الكريم ويعيش أجواء رمضانية مفعمة بالحياة.

حوانيت التحف والمصوغات

لا تغيب محلات بيع التحف الفضية والنحاسية والمصوغات الشرقية عن «حوانيت» سوق الحميدية، وكلمة «الحوانيت» تعكس دلالة المحلات الصغيرة المكتظة بالبضائع الفاخرة، ولا توجد مساحة مكانية فيما بينها، فهي عناق جميل يجذب زوار السوق .والطريف في هذه «الحوانيت» أن العديد من بضائعها معلق في سقف المحل وكأنه نداء خفي بان في الأعلى أشياء لم تكتشف بعد، وغالباً ما تكون مؤلفة من اكسسوارات المنزل، كالفوانيس التي تعلق في الردهات، أو كالتحف النحاسية التي تداعب ضوء «اباجورة» فوق منضدة في ركن هادئ في المنزل، وغيرها الكثير… يمتد سوق الحميدية وصولا إلى أحد فروعه المسمى سوق (المسكية) وهو سوق للكتب والقرطاسية، حتى يصل إلى أعمدة (معبد جوبيتر الدمشقي) وهي بقايا لمعبد وثني بني أيام الإغريق بقي منه أعمدته الضخمة الرخامية المرمرية الجميلة والمزينة بكؤوس مزخرفة من الرخام وبوابة أثرية ، والذي يتصل بساحة يعتقد أنها كانت فناء للمعبد المذكور ، ليجد الزائر نفسه أمام البوابة الرئيسية للجامع الأموي الكبير.

بوظة بكداش

خلال مرورك بسوق الحميدية لا بد ان تلاحظ ازدحام شديد على باب أحد المتاجر، إنه محل بوظة – ايس كريم –  بكداش الشهير الذي لا زال يقوم بإعدادها بالطريقة القديمة المتبعة منذ أكثر من مئة عام، خاصة عندما تعلم أن زبائن هذا المحل ليسوا من الناس العاديين فقط، بل زاره ملوك ورؤساء كثر، كملك الأردن عبدالله الثاني وملك المغرب والرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون وغيرهم ، ولا ننس أيضا نجوم غناء الوطن العربي محمد عبدالوهاب وأم كلثوم ..

و في نهاية السوق وقبيل باب شرقي يوجد العديد من الكنائس العريقة أهمها  (كنيسة حنانيا) التي تعود للعهد البيزنطي، وفي آخر السوق توجد سوق الحرير التي أنشأها درويش باشا عام 1574ويقع مدخلها بالقرب من الجامع الأموي وتشتهر دكاكينها ببيع الأقمشة والمطرزات والعطور ولوازم الخياطة النسائية، وهناك سوق الخياطين التي أنشأها شمسي باشا عام 1553 والتي تقع في نهاية سوق الحرير وتشتهر بمحلات بيع الأجواخ والأقمشة الصوفية ، وبين السوقين يقع جامع وقبر القائد الإسلامي نورالدين زنكي الذي أنشئ عام 1173ويتميز بقبة فريدة  وبمقرنصات داخلية وخارجية رائعة.

أسواق حرفية

تتفرع عن سوق الحميدية وتحاذيها أسواق كثيرة تصل إلى أكثر من عشرين سوقا تاريخيا متخصصة غير السوق الرئيسي وهي أسواق مهنية تخصصية عرف كل سوق منها باسم حسب مهنة السوق وتخصصه، نذكر منها أساسا: سوق مدحت باشا وهي سوق طويلة مسقوفة مثل سوق الحميدية بناها الوالي العثماني مدحت باشا، وسوق البزورية وفيها يباع كل شيء يتعلق بالأغذية والحبوب والبذورات المجففة إضافة إلى السمنة العربية والزيوت والبهارات، وسوق الحريقة المتخصصة بالأقمشة والملابس، وسوق العرائس المتخصصة بلوازم الأعراس ويسميها السكان سوق ” تفضلي يا ست ”  وسوق الطويل، وسوق المسكية، وسوق القيشاني الذي تباع فيه الكلف والأزرار وسواها، وسوق الصوف لبيع الأصواف ومشتقاتها، وسوق القطن وسوق العبي للعباءات العربية التي تشتهر بها مدينة دمشق والكثير من الروائع والفنون التي تشتهر بها سوريا.

مهما كتبت، ومهما وصفت ، يبقى ذلك ناقصا ولا يكتمل المشهد والإحساس إلا بزيارة هذا السوق التي يفوح منها عبق الماضي التليد والعريق، والحاضر الذي يقف على أبواب محلاتهم دون أن يستطيع أن يفرض نفسه عليها.


الحميدية

المعروف

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق