أمنية طلعت
تعد مسرحية العراس “محطة مصر” أول مسرحية تمثل هذا النوع من فنون المسرح التي تشارك في المهرجان القومي للمسرح منذ بدايته، ما يعد علامة فارقة ومميزة للدورة الثانية عشر والتي ضمت الكثير والكثير من فنون وأشكال المسرح، هذا بالإضافة إلى تميز هذه المسرحية التي أعادت لي الكثير من روح ملحمة الراحل الكبير صلاح جاهين “الليلة الكبيرة”، والتي تربينا عليها وعلى شخوصها التي تقدم تشريحاً مرحاً ووافياً للشخصيات المصرية التراثية، وهذا ما نجح في تقديمه مؤلف المسرحية وكاتب أغانيها محمد زناتي، الذي غزل داخل نسيج حكاية مسرحيته عدداً من الشخصيات التي تقدم وجوهاً متنوعة داخل الشارع المصري، ليعيد لنا بعداً مفتقداً في حواديت الأطفال العصرية، والتي تبتعد بطريقة أو بأخرى عن شكل وصوت شارعنا المميز الذي لا تخطئه عين أو تتوه عنه أذن.
اختار زناتي “محطة مصر” أو محطة السكة الحديد الرئيسية في ميدان رمسيس لتكون مسرحاً لأحداث قصته، ففي هذه المحطة يتقابل المصريون بكافة شرائحهم المجتمعية، فنرى الفلاح والصعيدي ونرى الطبقة المتوسطة والأرستقراطية، ونرى بائع الجرائد والدرويش، ثم أدخل عليهم نماذج لم نعد نراها سوى في الموالد أو في الأحياء التراثية مثل الأزهر والحسين، وهما الساحر أو لاعب الثلاث ورقات وبائع العرقسوس والغازية. كل هذه الشخصيات تتقابل في محطة مصر استعداداً للسفر مع الأب الذي يصطحب ابنته إلى الإسكندرية لقضاء العطلة الصيفية مع والدتها.
تبدأ الطفلة أحلام المتحمسة لتجربة سفرها عبر القطار في التعرف على كل هذه الشخصيات من خلال والدها الذي يشرح لها كل شئ عن الشخصيات، وأثناء هذا الشرح نستمتع بالعرض الذي تقدمه كل شخصية من خلال غناء يعيد لنا حلاوة زمان في ثوب عصري مبهج، استطاع الملحن حاتم عزت أن يغلفه بموسيقى معبرة تخطف الأذن وتشيع البهجة في النفوس، لنندمج بكلنا في الأحداث التي كنت أظن أنها ستجذب الصغار فقط، ففوجئت بها تنزع التصفيق من الكبار وتغمسهم في خيوطها، ليشكلوا جمهوراً متفاعلاً معها تماماً مثل أبنائهم الذين حضروا من أجلهم لمشاهدة المسرحية.
شخصية الطفلة أحلام والتي أدت صوتها الفنانة الشابة فرح عزت ببلاغة مدهشة تنبئ بميلاد فنانة واعدة ومميزة، تقدم نموذجاً مشرفاً للاطفال، فهي فتاة محبة لوطنها ومثقفة تعرف الكثير من المعلومات عن معالم مصر الهامة، ومطلعة على الكثير من الكتب لأنها تحب القراءة والمعرفة، وبذلك استطاع زناتي أن يقدم المعلومات للأطفال ويشجعهم على القراءة بأسلوب غير مباشر من خلال الأحداث، فأحلام يتركها والدها عند بائع الجرائد لانتقاء بعض الكتب كي تقرأها خلال الإجازة الصيفية، كما تقابل أيضاً طفل صغير يبيع الترمس في المحطة ولكنه يذهب إلى المدرسة ويعمل من أجل مساعدة أسرته الفقيرة، فتنشأ علاقة صداقة بينهما ويتباريا في سرد المعلومات عن نشأة المحطة وتطورها عبر العصور.
تعالج مسرحية العرائس “محطة مصر” أيضاً، موضوع الإرهاب والتطرف الديني بشكل مبسط يستطيع الأطفال استيعابه، وذلك من خلال ثلاثة إرهابيين يحاولون تفجير المحطة ويطاردهم ضابط البوليس، لكنهم يستطيعون خطف أحلام التي تتعرف عليهم، ويبدأ الجميع رحلة البحث عنها، فتساعد كل الشخصيات التي شاركت في الأحداث الضابط حتى يصلوا إلى الإرهابيين ويحبطوا مخططهم لتفجير المحطة وينقذون أحلام.
تشارك الفنانة الكبيرة فاطمة محمد علي في الأداء الصوتي لشخصية الغازية، فلا تتمالك نفسك من الضحك، وربما ضربت كفاً على كف متعجباً من قدرة فاطمة على تطويع صوتها وتحويله إلى أي نبرة صوتية تليق بأي شخصية، فهذه التي ينطلق صوتها بالعديد في “الطوق والأسورة”، تملأ ساحة العرائس فوق المسرح بالزغاريد وأغاني الأفراح حتى يخيل لك أنها ارتدت العروسة ووقفت مكانها بين عرائس المسرحية.
المخرج رضا حسنين والمعروف بعشقه لمسرح الطفل والعرائس بشكل خاص، أضفى على “محطة مصر” حيوية من نوع خاص، حيث لم يكتف بتحريك العرائس فوق البارفان الحاجب للمحركين، ولكنه لعب به بحيث يتم تحريكه في أشكال تقدم فراغات أرحب للأحداث، كأن نرى القطار وهو يتحرك وتركبه العرائس وأن يقدم خلفية تعطي انطباع انقسام شاشة السينما بحيث نرى شخصين يتحادثان تليفونياً في مكانين مختلفين، وهذا ما فعله في المحادثة التليفونية بين أحلام ووالدتها التي تنتظرها في الإسكندرية.
الديكور والعرائس، أو الأبطال الحقيقيين للعرض الذين نرى من خلالها الأحداث، تم تصميمها مع الديكور المحيط بها بأسلوب حيوي أعطى أبعاداً واقعية لأحداث المسرحية، فسمير شاهين لم يغفل تفصيلة من تفاصيل محطة القطار، حتى المقاعد الخشبية التي ينتظر عليها الركاب، إضافة إلى الألوان الساخنة التي ساهمت في إبراز حركة العرائس وتعميق الإحساس بالتفاصيل، رغم أنني كنت أتمنى أن أرى هذه المسرحية بأسلوب عرائس الماريونت، لكنها في النهاية خرجت بشكل ممتع وراقي أعاد الأمل إلى قلوبنا في أن مصر مازالت تحتوي على أقلام مميزة تعرف جيداً كيف تغزل حكاية لمسرح عرائس.