أمنية طلعت
إعادة إنتاج الفكرة درامياً مرة بعد أخرى تُفقد الفكرة أهميتها ومعناها، فأن تلبس الفكرة أثواباً مختلفة لا يعني أبداً أنك قدمت جديداً، ولا يعني أبداً أنك تنضج درامياً، فلا يهم اختلاف الاسم بقدر ما يهم اختلاف المحتوى المندرج تحت هذا الاسم.
ربما تكون هذه هي الأزمة التي يعاني منها المسرحي الموهوب محمود جمال حديني، فلقد وقع في هوة فكرة الاغتراب في الوطن باللعب على نوستالجيا الماضي الذي لابد وأن يكون جميلاً! ولم يتمكن منذ مسرحية “1980 وإنت طالع” أن يخرج منها، فبمراجعة المسرحيات التي شاهدتها له بشكل شخصي، مثل “يوم أن قتلوا الغناء” و إنهم يعزفون” و “إريوس” التي قرأتها في كتاب مطبوع، نكتشف إن حديني الذي يمتلك ناصية حياكة الدراما المسرحية باحتراف عالي وموهبة من الصعب الاختلاف عليها، انسجن في عبوة فكرية واحدة وإن اختلفت أُطر التناول.
في مسرحية “بيت الأشباح” التي عُرضت على المسرح العائم الصغير ضمن المسابقة الأولى بالمهرجان القومي للمسرح، يعيد حديني ما قد سرده علينا من قبل ولكن هذه المرة من خلال ثيمة البيت المسكون بالأشباح، حيث يستند إلى الميثولوجي الشعبي الخاص بأن هناك أرواح تظل عالقة بين السماء والأرض، ترفض استكمال رحلتها نحو العالم الآخر لأن هناك مهام معلقة على الأرض لم تنهها بعد.
ومن منطلق البيت الوطن، وإسقاط فكرة الشبحية على الإنسان المصري، يحشد حديني المؤلف والمخرج للعرض شخصيات متنوعة تجسد شرائح الشعب المصري على مدار عصور مختلفة، فمنذ عصر الباشوات والبكوات مروراً بالستينات والسبعينات والتسعينات ووصولاً إلى 2011 وثورة 25 يناير التي يتعامل معها محمود جمال دائماً باعتبارها نهاية الأحلام الثورية أو قمة صراع المواطنة التي ضاع معها كل شئ. وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه في رأيه فهذا ليس ما أعنيه هنا، ولكن ما أعنيه هو التشبث بالفكرة والاستمرار في الدوران حولها بأساليب وطرق مختلفة، فهو يشير في “بيت الأشباح” إلى فكرة ضياع الحلم لدى المصريين مهما اختلفت العصور، فنجده مثلاً يرسم شخصية لفتاة تعمل مدرسة موسيقى، توفت في أول يوم عمل لها في زلزال 1992، والفتاة الأخرى التي تعمل مصورة صحفية وتوفت في ثورة 2011، والمطربة التي سجلت أسطوانة واحدة لأغنية وحيدة غنتها في بداية القرن العشرين لكن لم يسمعها أحد وماتت دونها، وعازف البيانولا الحزين لأن البيانولا لم تعد تصدر تغريداتها، ومصمم الملابس الراقي والرومانسي الذي يموت تحت عجلات السيارات لأنه قرر أن يرقص مع حبيبته في الشارع، وما إلى ذلك من الإسقاطات على فكرة انتهاء إمكانية الحياة بحرية وحب في بلادنا من خلال استخدام موتيفات تكررت إلى حد الملل في العشرة سنوات الماضية، مثل إعادة أو تقديم شريط الكاسيت بالقلم الرصاص وآلة البيانولا المفتقدة رغم أنها اختفت منذ أكثر من سبعين عاماً، ما يجعلني أتسائل “كيف تجسد بؤرة حنين لدى حديني الذي لم يصل إلى الأربعين من عمره بعد؟!”.
يقع المخرج محمود جمال حديني في غرام النص الذي كتبه، فيعجز عن اتخاذ القرار باختصار نصفه على الأقل، فنحن نجلس على مقاعد المتفرجين على مدار ساعتين ونصف لنشاهد تطويلاً لا مبرر له، وبدايات لنهايات حتمية للدراما، فكلما يصل بنا إلى القمة ونتوقع النهاية، نجده ينحو بنا في اتجاه آخر، ما أصابني بنوع من الدوار وأنا أتابع الأحداث، وفي النهاية لا يجد أمامه سوى أن يجعل من الشاب الذي هرب من أهله وحياته الروتينية ليعيش مع الأشباح، شخصية خائنة تواطأت مع البواب لطرد الأشباح من البيت الذي يسكنوه حتى يتقاضى مبلغاً مالياً كبيراً يسافر به ليعيش في الخارج، بينما يشتري مستثمر جشع البيت من أجل هدمه والبناء عليه، فنجد أنفسنا في مواجهة ثلاثية تقليدية تم قتلها درامياً آلاف المرات وهي: (بيع الوطن – الرحيل من الوطن – مسخ ثقافة الوطن).
يزحم حديني خشبة المسرح بالعديد من الشخوص بلا مبرر درامي مفهوم، ففي اعتقادي البسيط، كان بإمكانه الاستغناء عن نصف شخصيات الأشباح وعلى سبيل المثال “مجموعة الباشا” والتي تتكون من الباشا وسكرتيره والسفرجي والشغالة، أربعة شخصيات كان بالإمكان اختصارها في الباشا وسكرتيره فقط، هذا بالإضافة إلى شخصيات أخرى كثيرة لم يكن وجودها ضرورياً في نسيج الحكاية ولم تفعل سوى إثارة الفوضى فوق خشبة المسرح، حيث لم يتمكن حديني المخرج من إدارة خشبته بشكل منضبط خاصة عندما تلتف الأشباح حول الشاب الذي يقرر السكن معهم ويتحركون معه دون أن يراهم.
لم يكن اختيار مجموعة الممثلين موفقاً أيضاً، فلقد خرج الأداء التمثيلي مفتعلاً وتشنجياً ما قلل من التفاعل مع الأحداث، وإن كان هناك بعض الاستثناءات مثل أمل نور الدين وفادي ثروت ومريم الجندي، وربما كانت إدارتهم المشوشة على خشبة المسرح هي السبب في هذا المستوى من الأداء. ورغم أن موسيقى العرض خرجت باهتة وبلا هوية حيث خليط غير مفهوم من أنواع مختلفة من الموسيقى، إلا أن الديكور والإضاءة جاءا موفقين للغاية ومعبرين عن الدراما وتواتر أحداثها وشخوصها.
في النهاية لا أخفي أنني من أكثر المتحمسين لمحمود جمال حديني ككاتب مسرحي، لكن من الذكاء أن يتوقف الكاتب للدخول في غمار تجارب حياتية وتأملية مختلفة حتى يعثر على فكرة يجدد بها دماءه وقلمه، فنحن لسنا من مطربي التسعينيات الذين يجب عليهم تعبئة شريط كل عام حتى يظل متواجداً على الساحة.