محمد نجم
الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للصحافة
هل ما قام به أصحاب “السترات الصفراء” فى فرنسا عقابًا خارجيًا على مقترح رئيسها بإنشاء جيش أوروبى؟ أم أنها انتفاضة داخلية ضد ارتفاع الأسعار ومعدل البطالة فى المجتمع الفرنسى؟
منذ 17 نوفمبر وحتى الآن تشهد فرنسا مظاهرات عنيفة ارتدى القائمون عليها “السترات الصفراء” والتى تتواجد إجباريًا فى كل سيارة فرنسية، وإن كانت هذه السترات عاكسة للأضواء، فإنها أصبحت معبرة عن الغضب الفرنسى ضد الرئيس الشاب الذى يحاول الاستقلال بالقرار الفرنسى ضد الهيمنة الأمريكية، إلى جانب قيامه بإصلاحات اقتصادية متسارعة وعميقة لإصلاح الآثار السلبية لست سنوات عجاف شهدها الاقتصاد الفرنسى.
ويبدو أن تلك المظاهرات التى عطلت الطرق وخربت المحلات ونتج عنها إصابات كثيرة سوف تستمر إلى حين، وخاصة بعد خطاب الرئيس الذى أعلن تفهمه لهذا الغضب المتنامى فى الشارع الفرنسى، ولكنه أصر على تحديه للمتظاهرين بالاستمرار فيما بدأه من إصلاحات ورفضه استقبال وفدًا منهم، واعدًا الشعب الفرنسى بتغيير عميق، مطالبًا الجميع بنقاش وطنى فى مناظرات شعبية لمدة ثلاثة أشهر لمناقشة سياسات الحكومة!
فهل يضحى الرئيس بشعبيته التى انخفضت إلى حوالى 25% ومستقبله السياسى، بسبب عناده الشخصى ضد هؤلاء المتظاهرين غير المسيسين؟ أم أنها عزيمة رجال الدولة الذين تولوا “أمانة” القيادة برغبة شعبية، ويأملون فى تنفيذ ما وعدوا به ناخبيهم مهما كانت التحديات؟
فى الحقيقة يمكن القول إن الرئيس ماكرون فى موقف صعب، فاستطلاعات الرأى تكشف أن 70% من الفرنسيين يؤيدون تلك المظاهرات التى بدأت بدعوة من سيدة عادية على موقع التواصل الاجتماعى للتظاهر ضد الضريبة الجديدة على المحروقات، وخاصة الديزل الذى تستخدمه أغلب السيارات الفرنسية والتى بلغت حوالى 65% من قيمتها البيعية، ومن سوء حظ الرئيس أن كانت الاستجابة لتلك الدعوة سريعة وعامة، وشارك فيها الأطفال والشباب والرجال وانتشرت بجميع أنحاء فرنسا، بل إنها طالت شارع الشانزليزيه “الأيقونة الفرنسية” الذى لم يشهد مثل تلك المتظاهرات منذ عام 1934!
نعم.. الرئيس الفرنسى يواجه مأزقًا حقيقيًا، حيث يبدو أنه يتحدى ناخبيه من الشعب الفرنسى، وفى ذات الوقت لا يمكنه خيانة الأمانة التى حملوها له هؤلاء الناخبون بإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتدهورة نسبيًا وعلى مدى ست سنوات متواصلة.
لقد صرّح ماكرون فى بداية المظاهرات، بأنه حان الوقت للاستماع للفرنسيين، ولكن هاهم الفرنسيون يتظاهرون ضده، بسبب ارتفاع نسبة البطالة فى المجتمع إلى حوالى 10%، مع انخفاض معدل الناتج المحلى فى الاقتصاد الفرنسى والذى يتراوح من 2 إلى 3%، مع وصفه بأنه أعلى معدل منذ 6 سنوات!
والمشكلة التى يواجهها الرئيس الفرنسى أن ناخبيه يعتقدون أنه “خيب أملهم” ووصفوه بـ “رئيس الأغنياء” وأن الإصلاحات الاقتصادية التى بدأها تصب فى صالحهم فقط! مستشهدين فى ذلك بتقليص الضرائب على الشركات الكبرى وأصحاب الأعمال!
والطريف فى الموضوع أن مظاهرات أصحاب “السترات الصفراء” بعيدة تمامًا عن الأحزاب والنقابات والجمعيات الفرنسية، على الرغم من وجود حوالى 406 أحزاب سياسية فى فرنسا منها ما يوصف بالوسط، واليسار، واليمين، وأيضا أقصى اليسار، واليمين المتطرف!
والطريف أيضا أنه على الرغم من ارتفاع عدد الأحزاب الفرنسية – مقارنة بالدول المجاورة لها – إلا أنه لا يوجد ممثل لها فى البرلمان الفرنسى بشقيه إلا لحوالى 25 حزبا فقط، بينما يتبادل الحُكم فى فرنسا حزبان فقط منهما وهما الحزب الاشتراكى – صاحب الأغلبية 273 عضوا – والحزب الجمهورى.
والمشكلة فى ذلك أن تلك الاحتجاجات العنيفة ليست لها قيادة موحدة، ولم تنتفض طبقا لأجندة معينة، ولذلك ارتفع سقف مطالبها – وكما حدث فى ثورات الربيع العربى، مطالبة باستقالة الرئيس!
ولكن هل كانت تلك الاحتجاجات عفوية وبسبب الأوضاع الداخلية، أم أنها عقاب أمريكى صهيونى لطموحات ماكرون الاستقلالية عن الهيمنة الأمريكية؟
البعض يرى أنها “عقاب” بسبب المحاولات التى يقودها كل من ماكرون فرنسا وميركل ألمانيا، للخروج من تحت المظلة الأمريكية..
فالأوروبيون مستاءون من نظرة التعالى الأمريكية ووصفهم لها بالقارة العجوز!، وكذلك المحاولات الأمريكية بإعادة استدعاء ما سمى بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقى والغربى بزعامة كل من روسيا وأمريكا، فضلا عن المواقف الأمريكية المتعنتة ضد إيران والتى تضر بالمصالح الأوروبية، وكذلك تمويل أمريكا إلى جماعات الإرهاب التى تعيث فسادًا فى الدول العربية والتى كانت سببا فى إفساد العلاقات العميقة والمتجذرة تاريخيا بين العرب وأوروبا، كما أن الدول الأوروبية قوى اقتصادية وعسكرية وسياسية لا يستهان بها، وخاصة كل من ألمانيا وفرنسا، يليهما إيطاليا وإسبانيا، وقد بدأت مصالحها تتصادم مع المصالح الأمريكية وترغب فى تحسين أحوال مواطنيها من خلال إعادة إنعاش اقتصادياتها بدلا من الدخول فى معارك سياسية وحروب باردة لم يعد هناك مبررات موضوعية لإعادة استدعائها.
البعض يرى ما تقدم.. ولكنى أعتقد أن الأزمات لا تنشأ إلا إذا كانت البيئة مهيأة لقيامها، فلولا الكساد الاقتصادى فى أوروبا وتعثر الأحوال المعيشية فى فرنسا ما قام الفرنسيون وهم شعب مثقف ومنضبط فى أغلبه، بمثل تلك الاحتجاجات العنيفة حتى ولو كانت وراءها أصابع خارجية كما يخمن البعض!
فالفرنسيون يتميزون بالرقى ويحبون العيش فى رفاهية!
وقد صبروا طويلا، وجاءوا برئيس شاب طموح توقعوا منه أن يغير أوضاع معيشتهم إلى الأفضل، ولكنهم بعد عام أو أكثر يشعرون أنه خذلهمِ!
حيث بدأ برنامجًا عنيفًا للإصلاحات الاقتصادية، تضمن خفض الدعم المخصص للمحافظات والبلديات البعيدة عن العاصمة، وأضاف رسومًا جديدة على مختلف السلع والخدمات، ثم كانت الزيادة الأخيرة للضريبة على المحروقات، وخاصة السولار والبنزين.
ومع كل ما تقدم.. فإننى أعتقد أن ما حدث ويحدث فى فرنسا ما هو إلا “سحابة صيف”، كما يقول العرب!، سوف يعبرها الفرنسيون بأسرع مما يتوقع البعض وقد تأتى المعاونة من الدول الأوروبية المجاورة، أو يتفهم الفرنسيون – بعد المناظرات العلنية التى دعا إليها الرئيس – أن الإصلاحات الاقتصادية التى تتم على الرغم من عنفها لا تستهدف غير مصلحة العباد والبلاد، وأن ما يحدث من ارتفاع فى الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة ليست إلا أزمة طارئة.. شهدتها دول أخرى مرت بذات الظروف والتراجع الاقتصادى، وما يحدث الآن فى فرنسا ليس بدعة ولا ضلالة، وإنما شدة تطلبتها الظروف وإجراءات الإصلاح الاقتصادى الخالى من الفساد!