مسقط “مدينة مسحورة” لا يجوز الدخول إليها أو الخروج منها بعيد غروب الشمس
أجرى جراحته المبهرة في الجسد العماني معيدا إلى بنيانه الصحة والتعافي
ما تحقق في عمان لم يكن مجرّد بنايات أسمنتية أو أبراج تناطح السحاب
مكتسبات النهضة العمانية الحديثة لم تتحقق بضربة حظ أو صفقة يانصيب أو رهان على طاولة قمار
منظومة ثلاثية حاضرة في ماضي وحاضر ومستقبل الدولة العمانية
ما كان يجري عند منتصف العام السبعين من القرن الماضي لا يمكن تخيّله ـ ومن خلال روايات العُمانيين أنفسهم الذين عاشوا المرحلة، إذا قورن بما يجري حالياً بعد حوالي خمسين عاماً حيث كانت قائمة الممنوعات طويلة، من حظر الانتقال داخل البلاد فيما بين المناطق العمانية ذاتها بل حتى داخل المنطقة الواحدة، فقد كانت عُمان مقسّمة فيما بين الساحل والداخل وما بين الجنوب والشمال، أشبه بفسيفساء قبلية مناطقية يتهدّدها التشظّي من كل حدب وصوب، وممنوع سفر المواطنين وأفراد عائلاتهم إلى الخارج حتى إن كان بهدف العلاج، دون الحصول على إذن من السلطات المختصة في كل منطقة، وكانت الموافقات تنبع من مبدأ “كل شيخ وله طريقة”، وممنوعة حركة السيارات من وإلى مناطق معيّنة، كما أن مسقط كانت محاطة بأبواب وأسوار ليس مسموحاً بدخولها بعد غروب الشمس إلّا لمن يحمل “قنديلاً “حتى يمكن التعرف إلى هويته والتحقيق معه قبل السماح له بالدخول، وإلّا فربما كان مصيره رصاصة تذهب بروحه إلى بارئها لأسباب أمنية، وممنوع الاستماع إلى المحطات الأجنبية في أجهزة الاستقبال الإذاعية، ومن يفعلها فله الويل والثبور وعليه أن يواجه عظائم الأمور.
ومع تصاعد المخزون الكثيف لمعاناة العمانيين آنذاك لم يبق أمامهم غير خيار أوحد هو “التغريب” حيث خرجوا من وطنهم مكرهين متسللين هائمين على وجوههم بحثاً عن لقمة عيش كريمة لا تذيقهم طعم المذلة، وعن هواء لا تحمل جزيئاته رائحة الكبت وعن “فلج” يروي ظمأهم لرحيق الحرية. رفضوا الواقع الذي بدأ غريباً على شعب له رصيد لا يمكن إغفاله وحصة لا يليق تجاوزها في الحضارة الإنسانية. وفي رحلة التغريب ظل هاجس العودة يراود أحلامهم فكانوا على يقين بحس الشعوب الذي لا يخيب أن يوماً سوف يأتي ليعيد الأمور إلى نصابها، فالشعب الذي تجرّع كؤوس الصبر المرّ لم يصبه دوار اليأس في محطة الانتظار الطويل لبزوغ الفجر الجديد.
في الثالث والعشرين من يوليو 1970م من القرن الفائت، جاء السلطان الراحل قابوس ليتسلم زمام الأمور في بلاد كادت أوصالها تتقطع، حاملاً مشاعل الأمل الذي ترقّبه مواطنوه لسنوات طوال، فكان خطابه الأول إليهم يقول: إني أعدكم أوّل ما أفرضه على نفسي أنْ أبدا بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأوّل هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها. أيها الشعب.. سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل، وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب. كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي، وإني متخذ الخطوات القانونية لتلقّي الاعتراف من الدول الخارجية الصديقة، وإني أتطلع إلى التأييد العاجل والتعاون مع جيراننا، وأن يكون مفعوله لزمن طويل، والتشاور فيما بيننا لمستقبل منطقتنا. إني أستحثّكم على الاستمرار في معيشتكم المعتادة، وإني سأصل إلى مسقط خلال الأيام القليلة المقبلة وهدفي الرئيسي ما سأخبركم به. شعبي.. إني وحكومتي الجديدة نهدف لإنجاز هدفنا العام.. كان بالأمس ظلامٌ ولكن بعون الله غداً سيشرق الفجر على عمان وعلى أهلها حفظنا الله وكلّل مسعانا بالنجاح والتوفيق.
القادم من رحم المعاناة بدا أقوى ممّا تخيل الكثيرون حيث تبدّت رجاحة عقله في فرز الأولويات، كان حازماً وهو يجري جراحته المبهرة في الجسد العماني ليعيد إلى بنيانه الصحة والتعافي متصدراً الرافضين لكل عوامل التخلف في طليعة المنادين بالتقدم الأكثر رغبة من سواه في القضاء على مرحلة التجهيل، المتحرق شوقاً إلى نشر التعليم بين أبناء شعبه “حتى ولو تحت ظل شجرة”. راح يدعو المهجَّرين إلى العودة يناديهم أن يضعوا أيديهم في يديه معاهدين على فتح صفحة بيضاء من صفحات التاريخ العماني يشارك في صياغتها الجميع دون استثناء لأحد. وتحوّل المهاجرون خارج الوطن إلى أنصار في الداخل حزموا أمرهم على الدخول في عراك مع أمواج عاتية، وبدأت السفينة العمانية رحلة إبحارها تحت قيادة رُبان ماهر يعرف الاتجاه الصحيح. وراح الزمن يسجل بإعجاب مسيرة نهضة شاملة تؤتي ثمارها كل حين صراحة ووضوحاً وحوارات مفتوحة أدت إلى تواصل دائم بين القمة والقاعدة.
والمراقب لتلك المسيرة “الملحمة” سوف يكتشف بأن ما تحقق في عمان لم يكن مجرّد بنايات أسمنتية أو أبراج تناطح السحاب، ولا طفرة نفط سرعان ما تخبو جذوتها أو تنطفئ، ذلك لأن قابوس اعتمد بالأساس على ركيزة أساسية تمثلت في إعادة بناء الإنسان العماني ذاته باعتباره بالفعل لا بالقول هدفاً أصيلا للتنمية وغاية لها، فكان المنهج سياسة متوازنة ذات أبعاد إنسانية تحكم مسارات الحركة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وفق خطط متلاحقة وضعت في حساباتها إمكانيات حقيقية لا تسرف في الخيال ولا تذهب بعيداً عن الواقع.
وفي رحلة عبورها من التخلّف إلى التقدم على جسر التنمية الشاملة لم تفقد توازنها ولم يصبها داء “الفرنجة”، فقد ظلت تحتفظ بهويتها التاريخية وتحافظ على انتمائها العربي والإسلامي حيث لم يكن الاهتمام ببعث التراث العماني والثقافة أقل من نظيره في مجالات التصنيع والزراعة والتعليم والتقنية المعلوماتية وغيرها من دروب الحداثة. ولم تتخذ قالباً ثابتاً تحاصر نفسها بين أبعاده، فقد حملت نداءاته ورسائله خلال السنوات الماضية مؤشرات واضحة لتحديد أولويات العمل الوطني في ضوء المستجدات المحلية والإقليمية والدولية. أدرك بأن الذين يستعذبون مد أيديهم إلى الخارج لن يتمكنوا من الاعتماد على الذات ولن يكون باستطاعتهم بناء تنمية حقيقية في الداخل، وأنّ الذي يفقد انتماءه وجذوره لا يمكن أن يُنتظر منه أمل أو رجاء. دعا شعبه إلى “نبذ الاتكالية” والقضاء على مظهرها واعتبارها من الأمراض الاجتماعية الخطيرة كاشفاً في ذلك عن رغبة واضحة في صيانة الاستقلال الوطني وتكريس الإرادة العمانية.
ولأن الثقة والحب كانا رابطين قويين بين السلطان الراحل قابوس وشعبه، فقد وجدت دعواته آذاناً صاغية وضمائر متيقظة وبدت الشعارات وكأنها حقيقة يومية يمارسها العمانيون بشكل يبدو متكاملاً، فالقواعد التي تضبط إيقاع العمل الداخلي هي التي أدّت إلى التأثير الإيجابي على السياسة العمانية الخارجية ورسم ملامحها. فقد بلور استقرار الداخل سياسة خارجية ارتكزت على مبادئ ثابتة وواضحة أساسها حسن الجوار واحترام سيادة الآخرين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير. كانت ولا تزال تسعى إلى معالجة “البؤر المتوترة” بالحوار الهادئ لا بالتشنجات، فهي تسكب الماء فوق النار ولا تعرف كيف يسكبون الزيت.
جولاته السنوية
الإنصاف يدعونا بإلحاح للإشارة إلى نموذج رائد من نماذج التلاحم بين الشعب هو نهج ارتضاه عن قناعة كاملة يتجسد في جولاته السنوية الميدانية حيث يحرص على التواصل المباشر مع أبناء شعبه يتحسس نبض الشارع العماني يسمع من مواطنيه ويصغون إليه. في هذه الجولات يعيش ما يقرب من ستين يوماً بلياليها متنقلا في مخيمه من منطقة إلى أخرى حتى ينهي زياراته لغالبية الولايات والمناطق العمانية متحدياً كل الظروف المناخية القاسية مصطحباً معه معظم وزرائه يضعهم وجهاً لوجه أمام مشاكل المواطنين طالباً إليهم حلولاً عاجلة لا تعرف دهاليز الروتين ولا دروب الغد الذي قد يطول انتظاره.
بين الماضي والمضارع
أغلب الظن أن حديث الأمس بما يستدعيه من استعمال قد يتكرر لأفعال الماضي على حساب المضارع، ليس محبّباً إلّا باعتباره “حواديت ما قبل النوم”.. وربما يأتي حسماً من رصيد ما يجب أن يكون.. لكنه على أية حال يصبح مشروعاً إن جاء بالقدر الذي يسمح بإطلالة سريعة من نافذة الحاضر باعتباره ضرورة تلبي حاجة مستقبلية إن كان بمعدل مسموح لشعب يسترجع الذاكرة.. فالذين يفقدونها يضلّون بالتأكيد طريقهم الصحيح إلى المستقبل.
لكن حديث الأمس العماني مهم لأن جيلاً جديداً ناهضاً من حقه أن يعرف الحقائق بمرارتها قبل حلاوتها، ليس فقط بحكم انتمائه لعمان، وإنما، وهذا هو المهم، لأن الوقت قد حان لأن يكون هذا الجيل مسؤولاً بفعل سنن التاريخ عن حماية المكتسبات التي ينعم بخيراتها الآن.. يحرص على تنميتها وتطويرها ويسعى لبناء أكثر مما بنى سابقوه وأفضل منهم إن استطاع.
والجيل الجديد المفترض أنه حامل المشاعل على درب المستقبل يخطئ إن ظن بأن ما تحقق له من حياة عصرية شواهدها تتحدث عن نفسها وتحدث الآخرين عنها، يخطئ هذا الجيل إن ظن بأن ذلك قد تحقق بضربة حظ أو صفقة يانصيب أو رهان على طاولة قمار.
فالإجابة على السؤال: كيف تحققت تلك الحياة اليسيرة نسبياً هو بمثابة سيرة ذاتية لمسيرة صعبة تحوّلت سنواتها إلى صفحات من العطاء الصادق ممهورة ببصمة شعب اختار طواعية سكة السلامة خلف قيادة آثرت أن تتحدى صلف التضاريس ووعورة الجغرافيا لتصنع حاضراً مشرّفاً وتعكف على صياغة مستقبل ترجو أن يكون مشرقا. وذلك كله دون أن تنال من وقار التاريخ أو تعبث بجذور التراث.
السيرة الذاتية لمسيرة عُمان الصعبة تتصدرها شهادة ميلاد مؤرخة بالثالث والعشرين من يوليو 1970م، ثم طفولة خشنة ظلت خلالها مجبورة على رضاعة الوجع طوال سنوات خمس عجاف. فالذين يؤرخون لحركة التنمية الحقيقية في عُمان الحديثة يقعون في خطأ فادح ؟ ذلك لأنهم يحسبون عليها تلك السنوات الخمس العجاف. فخلالها، كان العمانيون يبنون بيد مرتبكة لأن اليد الأخرى مفروض عليها أن تحمل السلاح. فالتاريخ الحقيقي لحركة التنمية يجب أن يبدأ، وهذا هو الإنصاف، منذ الحادي عشر من ديسمبر 1975م حين انتصرت إرادة التعمير ضد دعاة التخريب ووضعت عمان “بإجماعها وأصالتها” حداً للمخاطر يوم تعمدت فيه الوحدة الوطنية بدماء شهداء أبرار وانصهرت “المناطقية والقبلية” داخل بوتقة واحدة هي سلطنة عمان الأم الحنون على كل أبنائها لم تستثن منهم أحداً، فحتى العصاة الذين ثابوا إلى رشدهم ضمّتهم إلى أحضانها الدافئة تُربت على أكتافهم مرددة “عفا الله عما سلف. عفا الله عما سلف”.
القارئون للتاريخ المتابعون لأحداثه يمكنهم الكشف عن ومضات نادرة يختار فيها القدر شخصاً بعينه ليكون منقذاً لأمة مقهورة مجسداً لأحلام أفرادها آخذاً بأيديهم من سراديب التخلف إلى آفاق التقدم الحضاري عبوراً على جسر من التنمية الشاملة التي كان الحديث عنها نوعاً من الترف الفكري باعتبارها شبه الغائبة على أرض الواقع، لكنها حاضرة في وجدان الناس وعقولهم حلماً جميلاً يصبون إلى تحقيقه، شخصاً بعينه ليكون باعثاً لأمة أعياها “الاقتتال” كانت مهددة في منطقة مهمة من مناطقها حيث ظهرت في الجنوب حركة تسعى للخروج عن طاعة الوطن الأم تساندها مجموعة من القوى الدولية والإقليمية توافقت مصالحها على نهش الجسد العماني، وتحفزها حالة الترهّل التي وصلت إليها الدولة وما أصاب كيانها من هزال أفقدها المناعة في مواجهة الخطر وسلبها الإرادة الضرورية لحماية الذات، كما برزت القوى التقليدية في المناطق الداخلية تغريها الحالة العامة على ممارسة نوع من الحكم الذاتي المطبوع بالصبغة “القبلية” دونما شعور حقيقي بهيبة الدولة أو وجودٍ فاعل لأجهزتها الحاكمة، وساهم في تعميق الخطر وتوسيع رقعته طبيعة “الإدارة المحلية” المعتمدة رسمياً في ذاك الوقت حيث بقيت المناطق الداخلية النائية موكولة بإدارة شؤونها لزعماء القبائل يشرف عليهم دونما سلطة حقيقة أحد الولاة الذين يستعين بهم السلطان. وكان طبيعياً في تلك الفترة أن تقع الخلافات وتشتد المشاحنات بين مجموعات الفرقاء الذين لم يتوافر لديهم بعد شعور الانصهار في بوتقة الكيان الواحد، كما ساهم في عجز الدولة عن بسط نفوذها صعوبة الوصول السهل إلى المناطق الوعرة في داخل البلاد وانعدام الطرق الحديثة التي اختفت في غيبتها حالة “التواصل” بين الداخل من جانب والساحل على الجانب الآخر.
كان الاسم الرسمي للدولة هو سلطنة “مسقط وعمان”. هكذا تبدو الازدواجية للوهلة الأولى باعتبارها عنوان المرحلة، فنحن بصدد رمز يوحي أننا أمام مقاطعتين تنفصل كل منهما عن الأخرى، وأن الباب يبقى مفتوحاً للاجتهاد، وهو تعبير واضح عن انعدام الاستقرار الداخلي الناجم عن تعدد الرؤوس.
في حالة كهذه لم يكن غريباً أن يظل الجهاز الإداري ممارساً لأنشطته عند نهاية الستينيات بنفس العقلية والأسلوب اللذين كان يتعامل بهما في بداية العشرينيات من القرن الماضي دون تطوير أو تغيير متجمداً عند نقطة واحدة لفترة زمنية طويلة كانت كافية لإصابته بالصدأ وظهور أعراض التحلل. فترة زمنية امتدّت إلى خمسين عاماً متواصلة لم تضع في حساباتها أن عوالم جديدة تتشكل وأن أمماً أخرى تقطع أشواطاً في مسارات الحضارة الإنسانية الحديثة، وأن تلك الأشواط والسائرين على دروبها ليسوا معنيين بالأخذ بأيدي آخرين أرادوا لأنفسهم “أو أراد لهم غيرهم وارتضوا” التقوقع في ظلام العزلة متحصنين ضد ملاحقة التطور والأخذ بأسبابه.
نعم كانت عزلة حقيقية، فالعلاقات الدولية للبلاد لم تكن تتجاوز أصابع اليد الواحدة هي في معظمها لا ترقى إلى المستوى الذي يسمح لنا أن نطلق عليها علاقات دولية بمفهومها المعاصر، ويضاف إلى ذلك ما يزيد النفس شعوراً بالمرارة حيث العلاقات مع الدول العربية والإسلامية منعدمة بينما هي البلدان المفترض بأنها وشعوبها وتراثها وعاداتها وتقاليدها وعقيدتها تشكل في مجموعها المجال المغناطيسي الأكثر التصاقاً بالوجدان والنفس العمانية.
كانت عزلة حقيقة حيث حيازة جهاز “الراديو” تشكل جريمة يستحق مرتكبوها العقاب، فلم يكن مسموحاً أو متاحاً أن يسترق العمانيون السمع لأنغام آتية من خارج الحدود وكأنه رجس من عمل الشيطان.. تصاعد المخزون الكثيف من المعاناة فلم يبق أمامهم العمانيين غير خيار “التغريب” خارجين مهاجرين من وطنهم مكرهين متسللين وهائمين على وجوههم بحثاً عن لقمة عيش كريمة لا تذيقهم طعم المذلة وهواء لا تحمل جزئياته رائحة الكبت و”فلج” يروي ظمأهم من عطش للحرية. اغتربوا أو فرض عليهم التغريب رفضاً لواقع بدا غريباً على شعب كان له في التاريخ رصيد لا يمكن إغفاله وفي مسيرة الحضارة الإنسانية حصة كبيرة ليس من الإنصاف تجاوزها.
لقطات متفرقة
على مشارف سبعينيات القرن الماضي إطلالة عاجلة من نافذة الحاضر فماذا هناك؟ لقطات متفرقة تتجمع لترسم ملامح الصورة العمانية الشاحبة.. بلاد يتضوّر أهلها من شدة الفقر يترنحون من قسوة المرض ويسوقهم ظلام الجهل إلى سردايب العزلة يدفعهم بلا رحمة إلى نفق التخلف في كيان هزيل تتآكل أعمدته وتتصدع جدرانه يدق جميعها في عنف أجراس الإنذار بالخطر الوشيك، خطر السقوط في براثن المجهول المخيف. وهي في جملتها أوراق رابحة بأيدي الرافضين للواقع خصوصاً هؤلاء الذين بهرتهم “المعلبات العقائدية المستوردة” خاطفةً أبصارهم ببريقها المخادع فأفصحوا عن رغبتهم في الخروج عن طاعة الوطن الأم. كل شيء كان يمشي لصالحهم، فالواقع ومآسيه يضعهم “بثبات” فوق بساط الريح السحري يقدمهم إلى العالم باعتبارهم البديل المتحضر لواقع متخلف والخيار المنطقي في ظل واقع لم يعد مقبولاً.
لكن التربة العمانية ظلت تقاوم زراعة النباتات الشيطانية في أعماقها تلفظ البذور العقائدية اللا منتمية للأرض الطهور. وظل هاجس الإيمان بالوطن يراود أحلام العمانيين فكانوا على يقين “بحس الشعوب الذي لا يخيب” أن يوماً سوف يأتي ليعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وأنّ ظرف الزمان الاستثنائي لا يمكنه أن يكون مؤبداً، فالشعب الذي تجرّع كؤوس الصبر المّر لم يصبه دوار اليأس في محطة الانتظار لبزوغ الفجر الجديد.
عند الثالث والعشرين من يوليو 1970م حانت لحظة الإنصاف، وكانت عمان على موعد مع تلك اللحظة القدرية الفريدة، فكان السلطان قابوس هو الومضة التاريخية المتفردة الذي اختارته العناية الإلهية ليكون قائدها التاريخي القادم من رحم المعاناة الحامل لميراث مثخن بالجراح القابل للدخول في تحدّ سافر لمواجهة واقع مؤلم حيث بدت رجاحة عقله في فرز الأولويات. كان حازماً وهو يرتدي ثوب طبيب ماهر ليجري جراحة عاجلة في الجسد العماني المعتلّ معيداً إلى بنياته الصحة والتعافي.
كان واضحاً أن قابوس على دراية واسعة بالحجم الذي وصلت إليه مأساوية الوضع في بلاده، وعلى يقين كامل بأهمية الإسراع في الحركة لتطويق هذا الوضع. لم يكن بينه وبين فريق من شعبه أي خصومة مسبقة لكنه حدّد خصوم هذا الشعب الحقيقيين كما رسم المسارات الصحيحة لحركة المستقبل الهادفة للقضاء على هؤلاء الخصوم؟
فالخصم الأول حالة الازدواجية التي أصبحت رمزاً يجسّده اسم الدولة “سلطنة مسقط وعُمان” حيث كان قراره منذ الأيام الأولى لولايته القضاء على هذه الازدواجية الغريبة ليصبح هذا الكيان الجغرافي والتاريخي الممتد بحدوده التاريخية الضاربة في الجذور وتضاريسه الصعبة يعرف باسم “سلطنة عمان” منذ أغسطس 1970م.
ودلالة الاسم الجديد للدولة فرضت ضرورة عاجلة تستوجب دعم التماسك الاجتماعي وترسيخ الوحدة الوطنية عبر فرض السيطرة على كل ربوع الوطن العماني، وهي مسألة حيوية للحيلولة دون أية محاولات للتأثير في مجريات الأمور خلال مرحلة كان التنافس الدولي عند ذروته بين الشرق والغرب في منطقة تتداخل فيها المصالح من كل اتجاه.
وإن كان آخر العلاج هو “الكي” فإن حالة الضرورة فرضت عليه باعتباره أميناً على مصلحة الوطن وحريصًا على سلامة شعبه وأمّته التعامل بحزم في مواجهة محاولات الخروج عن طاعة الوطن الأم حيث لم يجد مناصاً ،وهو الذي بلا خصومة مع شعبه، من اللجوء إلى القوة العسكرية للقضاء على فريق من المتمردين الذين رفضوا التوقف عن ممارسات التخريب وانتهاك الحرمات العامة والخاصة على حد سواء رافضين لنداء التنمية في ظلال السلام المجتمعي أغوتهم أفكار “عقائدية مستوردة” لفظتها التربة العمانية وحالت دون نماء بذورها الشريرة.
ونقول أيضاً مستعيدين الذاكرة بأن الجيل العماني الجديد من حقه أن يعرف الحقائق مهما كانت مرارتها، ليس فقط بحكم انتمائه إنما أيضاً لأنه المسؤول الأول ،بفعل حركة الأجيال، عن حماية المكتسبات التنموية التي ينعم بخيراتها المفترض أن يحرص على تنميتها وتطويرها ساعياً لبناء أكثر مما بنى سابقوه وأفضل منهم إن استطاع، فمعالم النهضة الحديثة وشواهد إثباتها الشاخصة أمام أبصار الجميع تتحدث عنها جاءت بالعمل وليس التواكل والاتكالية، وتحققت بأياد عمانية مخلصة وعقول تنيرها مفاهيم صحيحة لمعنى “المواطنة” التي هي عطاء لا يتوقف ممهور بشرف العمل، فأي عمل من أجل الوطن يهون.
المثلث البغيض
أيقن منذ ولايته بأنّ هذا المثلث البغيض الذي رؤوسه “الفقر والجهل والمرض” هو الخصم العنيد لشعبه وبلاده والداء الذي يفقد الوطن مناعته الحضارية. قرر تحطيم أضلاعه لحساب بلاده وخير مواطنيه، ولم يكن غير النصر خياراً مقبولاً في معركة المواجهة عند مفترق فاصل بين مسالك وعرة. حمل مشروعه الحضاري “التعليم ولو تحت ظل شجرة” فهو سلاحه القوي في المعركة ضد الجهل والتخلف، حيث يكفي أن نعلم بأن معدلات إنشاء المدارس طوال السنوات السبعين من القرن العشرين السابقة للعام 1970م كانت بواقع مدرسة كل تسعة عشر عاماً ليقفز المؤشر إلى خمس وأربعين مدرسة في العام الواحد، وهي مجرّد إشارة عابرة تختصر الكثير من الدلالات التي لا تطاول الضلع التعليمي فقط، وإنما تمتد بنفس المعيار إلى الضلعين الآخرين حتى أنه يمكن القول باطمئنان أن المعركة أصبحت محسومة لصالح الجيل الجديد، فهل يدركون؟
السنوات العشر الأولى من حكمه تضاعف خلالها عدد العاملين بالجهاز الإداري للدولة لأكثر من ثلاثين ضعفاً، مواصلاً التمدّد باعتباره حينها النواة الضرورية والنقطة المحورية التي تنطلق منها الحركة نحو إقامة دولة عصرية حديثة جميعنا شهودها تتحدث عن نفسها ويتحدث الآخرون عنها، ولعل الأهم من التطور الكمّي هي “النقلة النوعية” التي حدثت في الجهاز الإداري للدولة والتي ساهمت في التطوير والتحوّل التدريجي للمجتمع العماني من “التقليدية” إلى مجتمع تديره مؤسسات منظّمة مستقرة، الأمر الذي كان له الدور الأكبر في إطلاق عملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي من قيودها.
وكان على جميع المسؤولين في الحكومة وأجهزتها المعاوِنة أن يدركوا بأن السياسة التي آمن بها وارتضاها سلوكاً ونهجاً هي التقريب والتفاهم بين الحاكم والمحكوم وبين الرئيس والمرؤوس، فذاك هو المسلك الناجح القادر على إشاعة روح التعاون وترسيخ الوحدة الوطنية، وكان على جميع المسؤولين دون استثناء لوزير أو مدير، أن يجعلوا نصب أعينهم مغزى المنظور القيادي الذي يلخّصه هو بنفسه بأنهم جميعاً “خدم لشعب هذا الوطن العزيز ومواطنيه الأوفياء”، وهي ليست فلسفة حكم بقدر ماهي مبادئ يرسيها صاحب رسالة حيث لا يمارس الحاكم أو الرئيس السيادة على المحكومين أو المرؤوسين إنما هو موجود في موقعه ليؤدي واجباً وطنياً مقدساً يتمثل في خدمة هؤلاء وأولئك.
وإن كانت عمان قد ظلت تدفع فاتورة باهظة التكاليف من أمنها واستقرارها وسلامة أبنائها مقابل أفكار مغلوطة ومعتقدات مضللة، وجميعها بضاعة فاسدة مسمومة، فلم يكن بمقدورها أن تقيم أسواراً أو خنادق عميقة بينها وبين دول الجوار الأخرى اتقاء لشرور محتملة وتجنبًا لمخاطر التلوث الفكري، لكنها اختارت أن تسلك طريقاً حضارياً في التعامل مع الآخرين بمنطق حكيم حين أعلن قابوسها تمسكه منذ البداية بسياسة تعمل من أجل دعم العلاقات مع كافة الدول على أسس من حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين فعلاً لا قولاً، وهي السياسة التي أثمرت وقفاً لمحاولات التدخّل بدرجة كبيرة في الشؤون الداخلية.
المنظومة الثلاثية
الركيزة الأساسية التي استندت إليها حركة المسيرة العمانية خلال العقود الماضية من عهد السلطان الراحل تمثلت في منظومة ثلاثية متكاملة قوامها الأمن والدفاع والسياسة الخارجية، ساهمت كل منها بفاعلية في تثبيت الوحدة الوطنية وصيانة الأمن الوطني والسلام الاجتماعي، وربما ذلك ما يفسر اهتمامه الدائم ورعايته الخاصة لأبنائه من منتسبي القوات المسلحة والشرطة، والإشادة بدورهم في العديد من المناسبات، موجهاً التحية إلى كل من أسهم في بناء صرح الدولة العصرية وشارك في تحقيق منجزاتها والسهر على صونها وحمايتها وخاصة القوات المسلحة العمانية وجميع الأجهزة الإدارية والأمنية، لكي يتمكن الجيل القادم والأجيال التي تأتي من بعده من مواصلة المسيرة التنموية على كافة الصعد، خصوصاً أن الطريق إلى بناء هذه الدولة العصرية لم يكن سهلا ميسوراً إنما اكتنفته صعاب جمة وعقبات عديدة، وهو يركز في ذات الخطاب على الالتزام بثوابت السياسة الخارجية المرتكزة على عدم التدخل في شؤون الغير من ناحية، وعدم القبول بتدخل الغير في الشؤون العمانية من ناحية أخرى باعتباره المبدأ الذي يجسّد حكمة القيادة ورؤيتها الثاقبة لضرورة توظيف السياسة الخارجية في خدمة الاستقرار الداخلي بمفهومه الواسع لتكون ضلعاً ثالثاً في المثلث الضامن لسياج منيع يصون مكتسبات النهضة الحديثة.
تلك المؤسسات الفاعلة بقوة في تاريخ وحاضر ومستقبل الدولة العمانية لم تصل الى وضعهما الراهن من الجاهزية والكفاءة من فراغ، فقبل أن تستقر المفاهيم الحضارية الرفيعة في الدولة العُمانية الحديثة كانت مسيرة البناء العاجل في بداية السبعينيات للقوات المسلحة التي نجحت خلال زمن قياسى في مواجهة أولى التحديات وأكثرها أهمية على الإطلاق في الحادي عشر من ديسمبر 1975م حين تغلبت على ما كان يمثل أخطر تهديد للإنسان العماني في وطنه ومستقبله منتصرة للبناء والتعمير والتنمية الشاملة، ومنتصرة كذلك، عند نقطة تاريخية فاصلة، للوحدة الوطنية والسلام الإجتماعى حائزة شرف الذود عن حياض الوطن والمنطقة بأسرها، خصوصاً في ظل ظروف دولية كانت تتصارع فيها الأقطاب وتتعدد المحاور.
ولم يكن هذا، رغم أهميته، نهاية المطاف في مجال تطوير القوة الرادعة بأفرعها المختلفة، وإنما نقطة البداية التي كرست مفهوم السلطان القائل “إن السلام الذي لا يستند إلى قوة تصونه وترعاه هو مجرد خيال”، كما أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن تحقيقها في غيبة السياج الأمني الذي يضمن أمن الوطن واستقرار مواطنيه مهيئاً لمناخ يأمن فيه الكافة على سلامتهم واستقرارهم حتى يتفرغوا للعطاء والإبداع.
من أجل ذلك كله، كانت ولاتزال عمليات التطوير والتحديث للجناحين اللذين يشكلان معاً مظلة تحمى المنجزات وتصون المكتسبات وتعزز الأمل فى المزيد من خطوات التنمية المستدامة الهادفة إلى تحقيق الخير والرفاه للوطن والمواطنين، كانت ولاتزال معتمدة على الإنسان قبل أي شيء آخر باعتباره المصدر الأصيل لتحقيق الأمن وليس الآلة العسكرية أياً كانت حداثتها. ففى غيبة الجاهزية والعقيدة القتالية للكوادر البشرية تتحوّل أحدث أنواع الأسلحة إلى مجرد قطع من الحديد التى يأكلها الصدأ بغضّ النظر عن كلفة صفقاتها، فلا سلاح بدون رجال مدربين أكفاء قادرين على استخدامه بوعي وقناعة وكفاءة وعلم ودراية، متمرسين عبر مناورات وتمارين تعبوية متكررة وفاعلة.
إلى ذلك، اعتمدت عمليات التحديث والتطوير والبناء مبدأ الترشيد فى الاستهلاك والابتعاد عن الترف في التعامل مع شراء الأسلحة مكتفية بتوفير أحدث المعدّات الضرورية بالفعل التي تتناسب والاحتياجات المطلوبة للإبقاء على الجاهزية عند الحد الضامن لتحقيق الردع المنشود، إضافة إلى الاعتماد على الذات من خلال الأجهزة الفنية المعاونة والورش الشاملة لإصلاح وصيانة الأسلحة والطائرات والمعدّات المتوافرة والعمل على تطويرها قدر الإمكان، الأمر الذي مكّن عمان قابوس من تحقيق المعادلة الصعبة.. فكانت المؤسسة العسكرية ولاتزال واعية وقادرة فى آن معاً على تحقيق الهدف الوطني الإستراتيجى باعتبارها حاضنة التنمية وراعية مكتسبات المسيرة الضامنة لمستقبلها، وهي تشكل واحداً من أبرز القطاعات الحيوية كونها ركيزة محورية في الفكر الإستراتيجي للسلطان القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي يلخص فلسفة الأمن والدفاع من المنظور الاستراتيجي العماني في عبارات بسيطة لكنها ذات دلالات عميقة، فرغم إيمانه المطلق بضرورات السلام محلياً وإقليمياً وعالمياً يقول: “الذى نؤمن به ليس سلام الضعفاء الذين لا يقدرون على ردّ العدوان والمحافظة على كيان الدولة واستقلالها وسيادتها وإنما سلام الأقوياء الذين يعدّون للأمر عدّته كما أمر الله، ومن هذا الفهم الواعي فإننا نقوم بتطوير قواتنا المسلحة الباسلة وكافة أجهزة الأمن وتزويدها بأسباب القوة الممكن توفيرها لتمكينها من أداء دورها في حماية الدولة وسلامة أرضها وكفالة الأمن والطمأنينة لمواطنيها والمقيمين فيها”.
قوات السلطان المسلحة ليست فقط تجسيداً للنموذج العصري للعسكرية العمانية إنما هي امتداد للتاريخ العسكري العُماني الذي يعود إلى قرون عديدة، والذي تكشف ملامحه مراحل تاريخية قديمة ومعاصرة، كما أن قيامها بمهامها ومسؤولياتها لم يحل دون إسهامها بدور ملموس ومتواصل في تنفيذ خطط التنمية بحكم ما يتوفر لها من إمكانات تقنية وهندسية رفيعة، خصوصاً في المناطق الجبلية والنائية أو في مواجهة ظروف مناخية أو جغرافية غير اعتيادية تجلّت بوضوح خلال ما تعرضت له السلطنة من ظروف مناخية غير مؤاتية كان من أبرزها إعصار”جونو” في صيف العام 2007م.
الضلع الآخر في الثلاثية يتمثل في المؤسسة الأمنية على اختلاف فروعها ونطاقات عملها، حيث يعبّر قابوس عن دور الشرطة منطلقاً من مفهوم حضاري نموذجي بقوله: “.. إن مواهب الفرد وقدراته الإبداعية والفكرية والعملية والأدبية والفنية لا تنطلق ولا تنمو ولا تزدهر إلا في ظل شعوره بالأمن وباستقرار حياته وحياة أسرته وذويه، لذلك كان أهم واجبات الدولة قديماً وحديثاً كفالة الأمن وضمان الاستقرار”.
هذا هو إذاً الفهم المستنير لمغزى الشعور بالأمن والاستقرار الذي هو المحور الأساسي لأي حديث عن التنمية والتقدم والأزدهار، والمرتكز لأي أمل في مستقبل أفضل لأن النقيض لا يعني غير اختلاط الأوراق وتبديد الحلم، بل وتهديد ما تحقق من إنجازات ومكتسبات. وفي إطار هذا الفهم الراقى، تقدّم الشرطة العمانية وجهاً مشرقاً للنهضة العُمانية الحديثة من خلال الكفاءة العالية التي تتمتع بها الكوادر الوطنية في مختلف مجالات العمل الشرطي، حيث استوعبت أعداداً كبيرة من الشباب العماني من حمَلة المؤهلات الجامعية والدراسات العليا، كما أثبتت الفتاة العمانية قدرتها على العمل بكفاءة عالية في هذه المجالات.
وبالنظر لطبيعة المجتمع العماني المعروف بتمسكه بالقيم والمبادئ الإسلامية، وما يسوده من علاقات المحبة والترابط الأسري والاجتماعي من ناحية، ونظراً لما تتبعه شرطة عمان السلطانية من أساليب عمل علمية متطورة سواء في مجال التوجيه للمواطنين والمقيمين أو اتخاذ تدابير منع الجريمة والعمل الدؤوب لضبط مرتكبيها في حالة حدوثها من ناحية ثانية، فإن المجتمع العماني لم يعرف الجريمة المنظمة بالمفهوم التقليدي، كما أن المؤسسة الامنية على اختلاف فروعها ونطاقات عملها تقوم بأداء مسؤولياتها مضبوطة الإيقاع مع مبادئ سيادة القانون ومفاهيم حقوق الإنسان.
وعلى الضلع الثالث من منظومة الاستقرار العمانية، نشهد توظيفاً متوازناً للسياسة الخارجية بمبادئها الراسخة عبر التاريخ العماني العريق، وإن كانت النهضة الحديثة قد أعادت صياغة تلك المبادئ وفق المفاهيم والمتغيرات العصرية دون مساس بالثوابت التي يرى قابوس بأنها “حاكمة” في التعامل مع الاخرين بما يخدم الأمن بمفاهيمه الأوسع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، منعكساً على الواقع العماني سلاماً واستقراراً ورخاءً.
مبادئ السياسة الخارجية العمانية كانت ــ ولا تزال ــ تسترشد بالواقع المحلي والمعطيات الإقليمية والمتغيرات الدولية، فهي لا تتدخل في شؤون الغير وترفض أن يتدخل الغير في شؤونها، حيث أكدت السنوات الخمس والأربعون الماضية التزامها بمبادئها الراسخة في تاريخها العريق معبّرة عنها بلغة العصر، ومن أبرزها التعاون مع سائر الدول والشعوب على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وما يعزّز ثوابت المبادئ الراسخة في السياسة العمانية الخارجية هو التأكيد عليها منذ وقت مبكر، ففي خطابه بمناسبة العيد الوطني الثالث عام 1973م. يرسم ما سمّاه الخطوط العريضة لسياسة البلاد التي يحدّدها بشكل قاطع ومختصر مفيد في أنها”تتمثل في عدم التدخل في شؤون الغير، ورفض أي تدخّل في شؤون بلادنا، وإقامة علاقات الصداقة والتعاون مع كل الدول المحبّة للسلام. وتأييد نضال الشعوب في سعيها إلى نيل الحرية والاستقلال”.
وقبل خمسة وثلاثين عاماً من الآن يجدد الالتزام بتلك المبادئ قائلاً: “كان للسياسة الموضوعية الواضحة التي ننتهجها منذ البداية على الصعيد الخارجي أثرها الفعال في بناء علاقات إيجابية متنامية مع مختلف الدول والشعوب، وإذ نسعى بكل إخلاص إلى العمل على تطوير هذه العلاقات بما يخدم الأهداف والمصالح المشتركة، ويساهم في تحقيق السلم والاستقرار على كافة المستويات الإقليمية والدولية، فإننا نؤكد من جديد على الاستمرار في سياستنا التي تقوم على الإيمان بمبادئ التعايش السلمي بين جميع الدول والشعوب والاحترام المتبادل لحقوق السيادة الوطنية، وحسن الجوار بين الدول المتجاورة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير. إننا نعمل دائماً وفقاً لهذه المبادئ ونمدّ يد الصداقة والتعاون للجميع، كما نحرص على القيام بدور بنّاء على الساحة الدولية، وندعو باستمرار إلى حل جميع القضايا والمشكلات التي تنشأ بين الدول بالطرق السلمية”.
التزام يتجدد ما بين الحين والآخر لكنّه لا يحيد عن الخطوط الثابتة الضابطة للحركة السياسية العمانية مع الخارج ضمن إطار يخدم المصالح المشتركة والمتبادلة مع الجميع، ويضمن للداخل استقراراً وأمناً وسلاما اجتماعيا.
التزام تربى في حضانته رجل الدولة بامتياز..والدبلوماسي المخضرم..والموسوعة الثقافية التراثية جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور أل سعيد..ومن المؤكد أنه سيمضي على نفس النهج القويم للسياسة العمانية على اختلاف محاورها.