أمنية طلعت
ملحمة إنسانية راقية وموجعة في نفس الوقت، يلعب النص فيها دوراً أساسياً فبدون النص لا يوجد مسرح، والكاتبة السويسرية من أصل يوجوسلافي دانييلا يانيتش كتبت “أيام صفراء” من واقع تجربة حقيقية عاصرتها بنفسها وهي طفلة أثناء حرب البوسنة والهرسك وانقلاب أهل الوطن الواحد على بعضهم البعض في حرب عرقية ودينية مزقت بلادهم وأدمت معالم إنسانيتهم وربما بترت كل قيمة عرفوها، ولذلك خرج النص مأساوياً صادقاً تتجلى فيه روح البشرية المغدورة بألعاب الساسة الكبار، الذين لا يأبهون لإراقة الدماء في سبيل تحقيق أطماعهم السلطوية.
تأخذك مسرحية “أيام صفراء” والتي عُرضت ضمن المسابقة الأولى من الدورة الثانية عشر للمهرجان القومي للمسرح، في نسختها العربية والتي ترجمتها نيفين فايق وأعدها درامياً عمر توفيق، من أول مشهد لها لتخوض تجربة مؤسية، ربما تردك إن لم أبالغ إلى الملاحم التاريخية التي تحكي صراع الإنسان مع ذاته ومع القوى العليا، في محاولة للبحث عن هوية خالصة له، لكنه في النهاية يصطدم بواقع أي صراع، ألا وهو الدمار حتى لو كنت أنت المنتصر.
سباق قيمي يدور بين الشخصيات الثلاث بالمسرحية ( الزوجة وأخوها وزوجها)، فالزوجة والزوج ينتميان لفصيلين عرقيين أو دينيين مختلفين، حيث لم يوضح النص ماهية هذا الاختلاف لأنه في النهاية لا يهم، فالفكرة في الأساس قائمة على الصراع بين المختلفين أياً كان سبب اختلافهم، ويقف الأخ بين اخته وزوجها، فهو نموذج للمتطرف المتعصب لهويته الضيقه ويصر على إبراز هذا الاختلاف أمام أخته، بينما تصر هي على أنه بإمكان الجميع أن يعيشوا سوياً كما اعتادوا منذ الأزل وأن الحب الصادق يذيب أي خلاف، بينما يقف الزوج نفس موقف زوجته ولكنه يرى أن أي خلاف يمكن حله بالنقاش والديموقراطية، وهو ما يسخر منه الأخ بلغة حادة موضحاً الفروق المادية والاجتماعية بين فصيليهما والفصيل الثالث وهم “الحمر”، وهنا نلحظ أن الكاتبة لم تعط أسماءً حقيقية لأي من شخوص أو مفردات نصها، فنحن نتعامل مع فصيلين يمثلهما الزوج والأخ وفصيل ثالث يحكمهما أعطته اسم الحمر، ربما لما في هذا اللون من دلالة دموية أو رمزية الطغيان، بينما أبطال المسرحية لا نعلم لهم أسماء فهم ينادون بعضهم البعض بصفاتهم داخل النص، والكاتبة تعمد من خلال ذلك إلى تعميم القضية التي تناقشها فهي قضية عالمية لا علاقة لها بمكان محدد.
أضفى المخرج أشرف سند على النص رؤية شديدة التميز، فلقد غلفه بإطار على هيئة مباراة بين فريقين حيث نشاهد مبارايات بين الفصيلين تتخلل المشاهد عند نقاط الصراع في الحوار بين الأطراف، ينساق لها الأخ الذي تعصف بذاته الفوارق بين الفصائل المتعددة داخل المجتمع، ورغم تأكيد الأخت/الزوجة لأخيها انها مجرد مباريات لا يعني الفوز أو الهزيمة فيها أي شئ، إلا أن الأخ يؤكد على أن الهزيمة موجعة وأنه لابد لفريقه/فصيله أن ينتصر. يقدم المخرج أيضاً شخصية صامتة على الأحداث وهي شخصية ملاك الموت التي قدمتها الراقصة سارة عاشور في عذوبة مفرطة، فنجدها تجسد مشاعر الأسى والحزن على ما ينتج من موت ودمار بسبب الشجار والحرب، في رقصات تسيل بهدوء موجع بين الأحداث خاصة تلك الأحداث التي تشارك فيها الزوجة وكأنها تجسد ضميرها الداخلي الذي يقف عاجزاً بين كل هذا الخراب الذي يطال أخيها وزوجها ومدينتها التي تذوي في مواجهة التطرف.
تحمل المسرحية كثيراً من الرموز ذات الدلالات الإنسانية الكونية، ففي المشهد الذي يجمع بين الأخ والزوج أثناء الهدنة وانسحاب الحُمر، يجلس الرجلان ليلتقطا أنفاسهما، فيتعجب الأخ من الزوج الذي يصر على ارتداء حذاء رياضي بينما يحتفظ بالحذاء العسكري داخل حقيبته رغم أنه حذاء قوي، ويبرر الزوج ذلك بأن الحذاء الرياضي أكثر خفة في الحركة، بعد ذلك وعندما يعود الزوج إلى زوجته نلاحظ أنه ارتدى الحذاء العسكري، دلالة على أن الحرب بين فصيله والفصيل الآخر الذي تنتمي له زوجته وأخيها قد أنهت ما تبقى لديه من إنسانية لتتعسكر روحه تماماً أمام أي ملمح لمدنية. كذلك عندما عاد الزوج إلى منزله وقد فقد عينه اليمنى فسأل زوجته إن كانت تصلي في غيابه وإلى أي رب كانت تصلي؟ فأجابته: “كان خوفي من أن يجدوك أكبر من قدرتي على الصلاة”، ويحمل هذا المشهد بلاغة شديدة الدلالة على شلل الإنسان في الخوف حتى عن التواصل مع الله، فالخوف يغرس اليأس واليأس يمنع العيون عن رؤية الخالق، نلاحظ أيضاً السخرية من المؤسسات الدولية التي من المفترض أنها تقف حائلاً بين الشعوب واندلاع الحروب، فيتم وصفها في المسرحية بـ “وكالات القدر التريحية”.
يدير أشرف سند فضائه المسرحي باحترافية يغلفها عمق فهمه لرهافة النص الذي بين يديه، ويكسبه الكثير من الحيوية، فهو يقسم خشبة المسرح إلى نصفين عرضيين، النصف الأول الذي يواجه الجمهور يمثل منزل الأسرة والمطعم الذي يلتقي فيه الزوج والأخ ثم مخبئهما أثناء الهدنة من الحرب، والجزء الخلفي يجسد ملعب المباريات ثم ساحة الحرب، ويفصل بينهما بشباك مثل شباك مباريات كرة القدم، كذلك يضيف مذياعاً “راديو” على الأحداث كنوع من تخفيف حدة مأساوية الأحداث ليسخر من تناول الإعلام السطحي لعمق ما يحدث بالفعل على الأرض. واستطاع مع مصمم الديكور فادي فوكيه أن يقدم رؤية مرنة لقطع الديكور المستخدمة والتي يمكن تشكيلها بسهولة لتجسد مقاعداً في منزل أو فراشاً أو طاولات في مطعم أو خندقاً في حرب، فأدت دورها بكفاءة لخدمة الأحداث دون أن تزحم الخشبة أو تحدث جلبة بتغييرها أو تحويلها.
ولا يمكن إغفال دقة اختيار الممثلين الذين لعبوا بطولة هذه القطعة المسرحية الفاتنة، فالفنانة رباب طارق استطاعت برهافة الفراشات المحترقة من أجل الضوء، أن تجسد دور الزوجة الممزقة بين زوجها وأخيها ووطنها وهي تشهد كل معالم الكون الذي تعرفه وهو يذبل ويفنى، فلقد استطاعت هذه الفنانة بديعة الطلة والموهبة أن تريق الدمع من عيني في كل مرة أشاهد فيها العرض، كما تمكن الفنان رامي الطمباري بصوته القوي الرصين وقدراته الأدائية المميزة والمعهودة أن يجسد دور الأخ المتطرف الذي لا يستطيع إنكار إنسانيته في مواقف بعينها، فينقذ زوج أخته رغم انتمائه إلى الفصيل الآخر ورغم اعتراضه على زواجهما، أما عابد عناني فقد نجح بقوة في تجسيد شخصية الزوج على اختلاف دفقاتها الشعورية والتي تتصاعد وتزداد حدة مع تأجج الصراع بالمسرحية ووصوله إلى القمة، فهو هذا الشخص الهادئ الرومانسي الذي يؤمن بالاختلاف بين البشر وأهمية الحوار الديموقراطي لحل أي نزاع، ثم هو هذا الزوج الذي يُجبر على ترك معشوقته/ زوجته لينغمس في حرب لا يؤمن بجدواها، ثم هو هذا المحارب الذي يقبض على إنسانيته رغم ثقل وطئ المعركة فيحرص على إطعام كلبة فقدت ذويها في الحرب ويحلم بذراعي زوجته، ثم هو هذا الرجل الذي فقد قدرته على تحديد المعاني فيفقد بصيرته ويقتل زوجته.
“أيام صفراء”، مسرحية شديدة الأهمية تؤكد حرص مركز الهناجر على اختيار العروض التي يقوم بانتاجها والمشاركة بها في المهرجانات، والتي أتمنى أن يعاد عرضها على مسرح الهناجر بعد انتهاء المهرجان ليشاهدها الجميع لما لها من قيمة تنعكس على ما نعيشة في مصر ووطننا العربي الآن من مواجهة للتطرف والإرهاب.