شهرية ..مستقلة

في المهرجان القومي .. ثلاثية الخوف والفقد والانتظار في نوح الحمام

0

أمنية طلعت

يقدم أكرم مصطفى في مسرحية “نوح الحمام” رؤية فنية شاملة ومترابطة لثلاثية “الخوف – الفقد – الانتظار”، من خلال حكاية بسيطة تدور أحداثها في قرية من قرى الصعيد، حيث ينتظر الجميع شخصية لا نراها طوال أحداث المسرحية، ولكنها تظهر كشخصية بطل خارق من خلال حديثهم جميعاً عنها، فهو أسطوري في كل شئ؛ القوة الجسدية والشجاعة والإقدام والشهامة وحتى ممارسة الجنس، فهو الذي قتل أربعة بطلقة واحدة في أسيوط وهو الذي أنقذ ضابط البوليس رغم العداء الشديد بينهما وهو الذي تحلم بمؤانسته زوجته وصفية جميلة جميلات القرية، وهو الذي يخاف من مواجهته أحد الذين لديهم ثأر عنده.

ثلاث بقع مكانية تتنقل بينها الإضاءة بشكل طولي لتروي الأحداث التي تدور كلها في ليلة واحدة، فلقد قسم أكرم فضاءه المسرحي طولياً بحيث تدور أحداث المسرحية في نصف يوازيه المكان المخصص للجمهور، ومن خلال استخدامه للضوء والظلام يتنقل بين أماكن الأحداث الثلاثة في صياغة أشبه بصياغات الدراما التلفزيونية، حيث يعتمد على الكادرات البصرية التلفزيونية والتي تنقل للمشاهدين الإيحاء بأنهم في بيوتهم يشاهدون أحداث مسلسل صعيدي، إضافة إلى عدم لجوئه إلى تحريك ممثليه في فضاء كل بقعة ضوئية بشكل كبير، فالحركة كانت محسوبة بدقة وكان الإيحاء بثباتهم في أماكنهم أكثر قوة وفعالية في نقل الإحساس الخاص بالشلل داخل عملية الانتظار، فكل شخوص الحكاية يعيشون داخل الانتظار حتى يأتي “وطني” الشخصية الأسطورية التي تمتلك مفاتيح إعادتهم جميعاً إلى الحياة.

وبين انتظار القدر والخوف منه تعيش شخصية سلام التي لعبها أكرم مصطفى نفسه، وشخصية علاء الضابط الذي تم تسريحه من عمله، فكليهما موتور وكليهما ينتظر عودة وطني حتى يعيد لنفسه إحساسه بكرامته ومكانته الاجتماعية، ولكنهما في نفس الوقت يخشيان عودته حتى لا تتكرر هزيمتهما أمام أنفسهما مرة أخرى، أو فقد حياتهما من الأساس، بينما يختلف نوع الانتظار لدى الشخصيات النسائية الثلاث، فالأم التي تقنع نفسها قبل من حولها أن موت ابنها وطني جائز وطبيعي من خلال حكايات شعبية ترددها على مسامع زوجته، هي نفسها التي ترفض داخلها الاعتراف بأنه قد يكون ميتاً بالفعل، فتعيد إحيائه بسرد قصص مغامراته العاطفية وسماع مشاعر العشق من زوجته وعشيقته صفية.

أما انتظار الزوجة والعشيقة فهو انتظار قائم على صراع وهمي على شئ غائب ولا دليل على عودته، ولا بديل من نسج الخيال حوله كل يوم لدرء سأم الانتظار، فالزوجة التي تستخدم السحر حتى لا يفكر وطني في امرأة غيرها وتواجه كيد العشيقة بكيد أشد قسوة، تواجهها العشيقة التي تعيش في وهم مغاير، فهي تزوجت من رجل لا ترى وجهه الحقيقي وإنما تمارس معه تفاصيل حياتها الزوجية على أنه وطني، تتسقط أخباره من همهات الطريق وتركض وراء أي بارقة أمل على عودته مهما طال الزمن، بينما تنوح فقده لأمه ولا تعتبر لغيرة زوجته.

وعلى الأطراف تقف شخصيتان تبدوان الأكثر فهماً لواقع أمر وطني وكل من يدورون حوله، فشخصية الأخرس “أحمد مجد الدين” وشخصية رجل البار “إبراهيم البيه”، تكسران حلقة الانتظار التي لا تتوقف عن الدوران، وتخرجان لتنظران إلى هذه العجلة المهلكة من أعلى، فهما يبدوان الأكثر فهماً لوطني بل والأكثر يقيناً من استحالة عودته.

تبدو المسرحية وكأنها نتاج عمل متأنٍ شديد الرهافة والحساسية، يظهر ذلك في كل تفصيلة بالعرض، فمن الصعب أن تلحظ هنات أو تسجل سلبيات، فالقصة محكمة بلا إفراط في التفاصيل، والحوار مدروس بلهجته الصعيدية المنضبطة وبنقله لواقع الحياة في قرى الصعيد دون مبالغات من تلك الشائعة في الدرامة الصعيدية، أما اختيار مجموعة الممثلين فهي الأكثر تناغماً منذ فترة طويلة في العروض المسرحية، فيستطيع الرائي أن يلحظ هذه الكيمياء التي تشبك أبطال العرض ببعضهم البعض، فبرغم أن الممثلين قُسموا مجموعات وفقاً لأماكن الأحداث من بيت وطني للبار للشارع إلا أن الحوار الذي يكمل بعضه بدقة يجعلك تشعر وكأنهم جميعاً في حوار مشترك واحد، كانت عودة الفنانة سوسن ربيع إلى المسرح بهذا العرض ذكاء كبير منها، كما استطاع أحمد مجد الدين بأدائه المحكم لشخصية الأخرس أن يجلب ضحكات الجمهور بشكل طبيعي وسلس، أما نشوى حسن فلقد تمكنت من نقل إحساس الزوجة المهانة والمهملة بحرفية، وسحرت إيناس المصري بأدائها العذب لشخصية العشيقة المشاهدين، بينما جاء تجسيد ياسر عزت لشخصية الضابط المطرود حقيقياً جداً، وتمكن أكرم مصطفى من لعب دور سلاّم الباحث عن ثأره والخائف من المواجهة ونقل هذا التشتت النفسي والذهني للجمهور.

استطاع محمد حمدي رؤوف مؤلف موسيقى العرض أن ينقل لنا الأجواء الصعيدية المغلفة بالليل والانتظار والنوح، وجاء ديكور فادي فوكيه ملفتاً للنظر، فلقد كان هو فاتح الشهية للجمهور الذي يدخل إلى القاعة فينجذب إلى الديكور ويعيش أجوائه للحظات قبل بداية العرض.

لا يمكن بحال من الأحوال المرور سريعاً على عرض “نوح الحمام”، فهو من نوعية الدراما التي يمكن تأويلها تأويلات عدة، وقراءتها من زوايا فكرية مختلفة، فكما أومن دائماً بأن النص هو أساس أي نجاح درامي، استطاع نص “نوح الحمام” أن يجذب قاطرة العرض ليكون واحداً من العروض المميزة على خشبة المسرح المصري الآن.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق