ضمن القومي للمسرح .. إعلام القاهرة تقدم رؤية مغايرة لدخان ميخائيل رومان
أمنية طلعت
يقدم مايكل بسطا مخرج مسرحية “الدخان” في طبعتها الإنتاجية عن مسرح كلية الإعلام جامعة القاهرة والتي قُدمت ضمن المسابقة الثانية للمهرجان القومي للمسرح في دورته الثانية عشرة، رؤية درامية حديثة لمسرحية ميخائيل رومان التي كتبها في ستينيات القرن الماضي، والتي تدور في نسختها الأصلية في ثلاث فصول وتناقش الإدمان والصراع الدائر في نفوس الشباب بين أفكار الأجيال القديمة المتحجرة، والأجيال الجديدة المتطلعة للمستقبل، ويتجسد ذلك في شخصيتي المسرحية الرئيسيتين حمدي وجمالات. الشقيقان الكبيران الذان قرءا الكتب التي تركها والدهما المتوفي في صندوق أسود دلالة على جمود فكر الأجيال السابقة، ما جعلهما يقعان في سؤال وجودي عن كينونتهما وقيمة حياتهما، وفي الوقت الذي قررت جمالات أن تنخرط في روتين الوظيفة وترتبط برجل لا يحبها ويأخذها كخطوة عملية في طريق تحقيق تطلعاته المادية، يقع حمدي في شباك الإدمان الذي حقق له اللذة المفتقدة في حياته الواقعية والتي تفرض عليه العمل في ظيفة لا تشبهه فقط من أجل جلب الأموال التي تحتاجها الأسرة وتحديداً أخيه الصغير.
دمج مايكل بين شخصية حسنية خطيبة حمدي وشخصية أمه التي تعطيه المال وهي تعرف أنه سيشتري به المخدرات، كما جدد في تناول باقي شخوص المسرحية مثل شخصية المعلم رمضان تاجر المخدرات وأفراد أسرة حمدي، كما أنه فكك كلاسيكية النص ليجرب معه لعبةً مسرحية تمسك بتلابيب المشاهد من أول مشهد وحتى آخره، ففي فصل واحد سرد مايكل مسرحية رومان على لسان شخصيتين، يدخلان في تحدٍ بينهما، حيث شخصية فتحي الأخ الأصغر والذي تبدأ المسرحية به في مواجه “ملاك أو شيطان” يصر كل واحد منهما على رأيه، ففتحي يرى أنه بالإمكان إنقاذ حمدي وإعادته إلى حياته الطبيعية حيث عمله وخطيبته التي يحبها، لتتدخل الشخصية الأخرى وتفسد عليه كل محاولاته الرومانسية لتعيدها إلى واقعها القبيح، ونظل نتابع هذا الصراع من خلال أحداث المسرحية التي تنكشف معها زيف الشخصيات في الحياة من حول حمدي وادعائهم الدائم لواقع غير حقيقتهم التي تنكشف في لحظة صراحة أوقعتهم فيها شخصية “الملاك/الشيطان” كنوع من الإسقاط على غياب الدور الفاعل للعائلة في حياة أبنائهم والفجوة التي تفصل بينهما الآن.
خرجت رؤية الديكور حيوية ومعبرة عن رؤية المخرج الحداثية للمسرحية، حيث تم وضع إطارات صور خشبية ضخمة يقف داخلها شخصيات المسرحية في وضع يجسد شكل إطار الصورة وهم يرتدون الأقنعة على وجوههم، ليخرج كل واحد منهم في اللحظة الدرامية التي يساهم فيها، ومن ثم يعود إلى مكانه عندما يصدر الأمر من فتحي أو “الملاك/ الشيطان”، كما استطاع الممثلون من طلاب كلية الإعلام جامعة القاهرة أن يجسدوا أدوارهم باحتراف ويتحركوا في فضائهم المسرحي بحساب شديد الدقة أخرج رؤية منضبطة للتناول الإخراجي الجديد، خاصة الفتاة التي لعبت دور “الملاك الشيطان” والتي تتميز بقدرات تمثيلية وحركية ملحوظة، حيث جمع دورها مع شخصية فتحي تابلوهات راقصة تجسد الصراع بينهما حول رومانسية أو فجاجة الحياة!
جاءت الإضاءة أيضاً متناغمة مع أحداث المسرحية، وذلك باستخدامها كفاصل بين أركان خشبة المسرح للتركيز على أحداث بعينها بعيداً عن باقي الممثلين الذي لا يغادر أغلبهم الخشبة، فيكون تغييبهم بالإظلام وتركيز بقعة الضوء على الحدث الدرامي الحالي، ونفس الشئ بالنسبة للموسيقى التي جسدت الصراع الدائر بين الأبطال حول السؤال الدائم منذ الأزل: من هو الإنسان داخل هذا الكون الواسع؟ وهل هناك قيمة للحياة التي نحياها.
يعتمد النص على المونولوجات الطويلة التي يغلب عليها الطابع التراجيدي، بجانب مشاهد كوميدية قليلة تنتج عن المفارقة التي تظهر عندما يلتقي حمدي المثقف بالمعلم رمضان تاجر المخدرات الحقود ورجاله ورغبة المعلم في أن يدمر حمدي تمامًا ويقضي عليه ويجعله أحد صبيانه.
أثارت مسرحية “الدخان” والتي تًعد من أبرز ما كتب “رومان” عندما عرضت لأول مرة جدلًا واسعًا بين الجمهور والنقاد، إذ اعتبرها البعض نصًا جريئًا وصادمًا يقدم المدمنين من منظور مختلف، وذهب آخرون إلى تسفيه النص واعتباره لا يرقى لأن يكون على خشبة المسرح.
فكرة التقديس والاستعباد والتطلع إلى الحرية والتمرد لرفض كل قيود المجتمع تبرز بقوة في هذا النص الاجتماعي الصادم، والذي جعله مايكل بسطا مخرج العرض أكثر صدامية عندما قلب العملة على وجهها الآخر واكتشفنا في آخر العرض أن فتحي هو حمدي لتقلب الآية ويقف من كان يلعب دور حمدي مرتدياً ملابس فتحي ليؤنب أخيه ويتهمه بالضياع، وذلك ليقول بكل صراحة: كلنا يمكن أن نكون حمدي، نضيع في الدخان هرباً من حياة لا نرى قيمة لحياتنا داخلها!