مصري يعشق عمان ويوصى بدفن جثته في ترابها
من هو الاكاديمي الفنان الذي قاد عملية توثيق الفنون التقليدية العمانية؟
السلطان الراحل قابوس منحه وسام عمان من الدرجة الثانية
–
أول دولة خليجية عربية تتمتع بعضوية المجلس الدولي للموسيقى التقليدية
للفنون التقليدية في سلطنة عمان ذوق رفيع تطرب له الأذن وتستمتع بمشاهدته العين، فهي مفردات في سجل متكامل يحكي حياة العمانيين بتفاصيلها الدقيقة بأفراحها وأحزانها، همومها وآمالها، أحلامها وواقعها، شؤونها وشجونها.
إنها المفتاح الحقيقي الصادق لفهم الشعب.. أيّ شعب. وهي التراث الذي يستحق الحفاظ عليه وصيانته، خصوصاً أن فنون عُمان التقليدية تسجل أنغامها ورقصاتها أحداثاً وطنية جماعية وشخصية، وربما لذلك نفّذت وزارة الإعلام العمانية في ثمانينيات القرن الماضي عملية واسعة النطاق لجمع وتوثيق الموسيقى (الغناء والرقص العُماني التقليدي) مصوراً تلفزيونياً ومسجلاً صوتاً وموثقاً بالصور الفوتوغرافية وصحائف البيانات، حيث كانت تلك خطوة مهمة للحفاظ على التراث الفني التقليدي وحمايته من الاندثار في زحمة التحديث التي طاولت كافة المواقع، لاسيما أن هذه النوعية من الفنون التقليدية لا تخضع لأصول أكاديمية بالمعنى المتعارف عليه إنما يجري حفظها وتداولها “بالسماع والتلقين” من جيل إلى جيل آخر.
من العزلة الى التواصل
هذه الخطوة الرائدة في مجال حفظ التراث الفني جاءت لتصيب هدفاً وطنيا مهماً يتمثل في تحقيق “التمازج” بين الفنون التقليدية في كافة المناطق العُمانية عبر استثمار جيّد لما وصل إليه الإرسال الإذاعي والبث التلفزيوني من امتداد واسع، كما تأتي أهمية هذا التمازج وتلك المشاركة إذا عرفنا بأن القبائل العُمانية (قبل بداية سبعينيات القرن الماضي)، رغم أنها كانت متجاورة لا تفصل بينها غير مسافات قصيرة، كانت “العزلة الفنية” أو انعدام التواصل الفني مكرسة بينها، فلكل منها غناؤها ورقصها التقليدي الذي ربما لا يقدر الآخرون على فك طلاسمه.
في النصف الثاني من عام 1983م بدأ العمل الفني العلمي الميداني، حيث اكتملت المهمة التي قادها وزير الاعلام حينها عبد العزيز بن محمد الرواس مع نهاية العام 1984م وأداها بفاعلية أكاديمي وفنان مصري كان حريصا دوما على ترديد رغبته في أن يدفن بعمان ،وبالفعل وافته المنية ودفن هناك حسب وصيته !
الفنان..وكيل الوزارة
هو الدكتور يوسف شوقي مصطفى الملحن والناقد والعازف والمؤرخ الموسيقي ووكيل وزارة الثقافة المصرية الأسبق..والذي كان أيضا عالم جيولوجيا وحفريات..وعمل أستاذًا بكلية العلوم، بالإضافة إلى كونه أكاديميا وباحثا في مجال الموسيقى العربية.. وكان له برنامج إذاعي شهير في سبعينيات القرن الماضي في إذاعة صوت العرب بعنوان “مالا يطلبه المستمعون” كان ينتقي فيه النوادر من الأغاني ويتناولها بالتحليل.
ويعد الدكتور يوسف شوقي رحمه الله مؤسس البحث الموسيقي العلمي في سلطنة عمان ووضع قواعد إنشاء مركز عمان للموسيقى التقليدية ..و قام بمشروع ميداني ضخم تضمن جمع وتوثيق كل ما يتعلق بالموسيقى العمانية التقليدية من خلال زيارته لمحافظات وولايات السلطنة المختلفة، واطلاعه على نماذج من الفنون .. ولقائه بالعديد من المشتغلين فيها.
وفي أغسطس من عام 1985 م قدّم الدكتور يوسف شوقي تقريرًا إلى السلطان الراحل قابوس بن سعيد المعظم يتضمن نتائج المشروع، حصر فيه بجانب الأنماط الغنائية ومناسباتها، والآلات الموسيقية أكثر من ألف ممارس للموسيقى التقليدية ،وأسهم في تنظيم الندوة الدولية لموسيقى عمان التقليدية عام 1985م ،والتي شارك فيها عدد من أبرز علماء الموسيقى من مختلف دول العالم، كما ترك قبل وفاته في عام 1987 م مسودة كتاب “معجم موسيقى عمان التقليدية” الذي تمت طباعته لاحقا ..ويعد مرجعا للمصطلحات المستعملة في الموسيقى التقليدية العمانية، كما قدّمت الأوبرا السلطانية العمانية في نوفمبر من العام 2015م المتتالية السيمفونية “عُمانية” التي كان الدكتور يوسف شوقي قد ألّفها…ونظرا لخدماته المتميزة،فقد منحه السلطان قابوس بن سعيد وسام عمان من الدرجة الثانية في عام 1985م.
وفي العشرين من نوفمبر عام 1987م وافته المنية ..وتم دفنه في مقبرة “العامرات” التابعة لمحافظة مسقط حسب وصيته.
الوعاء المناسب
كان لا بد من وجود الوعاء المناسب الذي يحفظ هذا التراث فتأسَّس المركز النوعي المتخصص في فنون السلطنة، حيث أنشئ في يناير 1984م “مركز الفنون الشعبية العُمانية”. وعقب انضمام سلطنة عمان إلى المجلس الدولي للموسيقى التقليدية تغير اسم المركز ليصبح “مركز عُمان للموسيقى التقليدية”، الذي يضم مجموعة التسجيلات التلفزيونية المصورة والتسجيلات الصوتية والوثائق الفوتوغرافية والمكتوبة للموسيقى والغناء التقليدي التي تم جمعها “ميدانياً” منذ بداية المشروع، ومن بينها أربعمائة وستة عشر شريطاً تلفزيونياً تضم أكثر من ألف وثمانمائة مادة مصورة وستمائة وتسعة وثمانين شريط تسجيل صوتي واثنين وعشرين ألف وخمسمائة وست وثلاثين صورة فوتوغرافية ملونة، ومجموعة من الشرائح الملونة التي يزيد عددها عن ألف وثلاثمائة شريحة، إلى جانب وثائق العمل الميداني في مشروع جمع وتوثيق موسيقى عمان التقليدية التي تزيد عن خمسة آلاف وثيقة مكتوبة، كما يضم أرشيف المركز مائتين وخمسة وأربعين شريط فيديو وألفاً وثلاثمائة وأربعاً وأربعين شريحة ملونة بالإضافة إلى خمسة آلاف وخمسمائة وأربع وأربعين صورة فوتوغرافية توثق للحرَف التقليدية العُمانية.
إلى ذلك، فهو يقوم بتدريب الكوادر العُمانية المؤهلة على العمل في مجال الفنون التقليدية نظرياً وعملياً وميدانياً، فقد نجح في نقل الموسيقى التقليدية العُمانية إلى المجال “السيمفوني” في قناتين متوازنتين أولاهما تزويد القادرين من المؤلفين بألحان وإيقاعات موسيقى عُمان التقليدية لاستخدامها في إبداع مصنفات موسيقية للأوركسترا السيمفوني كلما طلبوا ذلك، والثانية تجسّدت في ثلاثة مؤلفات سيمفونية تم إعدادها داخل المركز وسجلها “أوركسترا لندن السيمفوني” أقيم لعزفها لأول مرة في السلطنة ثلاث حفلات سيمفونية في ديسمبر عام 1985م بفندق قصر البستان تحت رعاية السلطان الراحل.
كما يوفر المركز التسهيلات للباحثين والدارسين في ما يخص اهتماماتهم ودراستهم في هذا المجال، ويعمل على إعادة ترتيب وبرمجة الأرشيف الخاص بالفنون العُمانية، وقد أصدر بعض الكتب التي من بينها “معجم موسيقى عُمان التقليدية” تمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية في عام 1994م، ونشرها المعهد الدولي للموسيقى التقليدية بألمانيا، وبالتعاون مع نفس المعهد أصدر المركز الثلاثة أجزاء الأولى باللغتين العربية والإنجليزية تضمنت أبحاث الندوة الدولية التي عقدت عام 1985م حول فنون العمارة التقليدية وألبوم صور ملونة من فنون عمان التقليدية.
إصدارات اليونسكو
وفي عام 1993م ــ وضمن سلسلة إصدارات اليونسكو السمعية ــ صدر شريط وأسطوانة مدمجة تتضمن مجموعة تسجيلات لفنون عمان التقليدية، كما أصدرت وزارة الإعلام العمانية آنذاك أسطوانة مدمجة باسم “موسيقى حضارة عريقة” تحتوي على العديد من الأغاني العمانية التقليدية.
وتعد سلطنة عُمان أول دولة خليجية عربية تتمتع بعضوية المجلس الدولي للموسيقى التقليدية الذي ينبثق عن منظمة اليونيسكو، كما أن مركز عمان للموسيقى التقليدية عضو فاعل في الجمعية الدولية للأرشيف الصوتي، ويمثل عمان في المجمع العربي للموسيقى التابع لجامعة الدول العربية، كما وضع نظاماً دولياً منبثقاً من واقع الثقافة الموسيقية العُمانية مُدخلاً جميع المعلومات والبيانات في جهاز الحاسب الآلي.