شخصية الرجل كانت دائماً “لغزاً” بالنسبة لي على الأقل منذ أن وطئت قدماي أرض السلطنة في مساء ذاك اليوم الثامن والعشرين من أكتوبر 1987م من القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين كان هاجس دائم بداخلي يدعوني إلى البحث عن فك هذا اللغز الذي بدا، لي على الأقل، مثيراً للتساؤلات؟
فلماذا هذا العشق الجارف من جانب العمانيين لشخصه؟ ولماذا يحيطونه بتلك الهالة من التوقير الشديد الذي يصل إلى حد القداسة في الكثير من الأحيان؟ ماذا فعل بقلوبهم قبل عقولهم وكيف تمكّن من الإثنين معاً، القلوب والعقول في آن واحد، وهي حالة تبدو نادرة في تاريخنا العربي والإسلامي “ربما باستثناءات لا تجاوز أصابع اليد الواحدة؟”.
كيف يختلف العمانيون في رؤاهم وآرائهم حول شخوص عديدة من المسؤولين والمتنفذين “إلّا هو” الذي ظل ــ ومنذ عقود أمضيتها ضيفاً عزيزاً عليهم أعزّاء على نفسي ــ هو الشخص الأوحد الذي قد لا يختلف حوله اثنان من مواطنيه؟
وعلى الرغم من مشاغل العمل الصحافي اليومية، ظل هذا السؤال اللغز يراودني على الدوام، أسأل وأستقصي وأتابع. أشاهد وألاحظ.
لماذا تحتشد الصحف والمطبوعات على اختلاف أطيافها بالحديث عن إنجازات الرجل في المناسبات الوطنية العديدة. وخلال منعطفات تاريخية “مفصلية” مرت بها المنطقة ولاتزال ما بين عواصف صحراوية مزلزلة خلّفت تداعيات مؤسفة نسفت ثوابت وراحت ضحاياها أوطان كانت يوماً قريباً تملأ السمع والبصر، قضت نحبها بينما أخرى “لاتزال في قائمة الانتظار”؟
كيف تعامل السلطان الراحل قابوس بن سعيد مع قضايا وطنه الأساسية، رحلة طويلة تابعت مجرياتها عن كثب طوال ما يقرب من ثلاثة عقود كنت شاهداً عليها.. ومن يكتم الشهادة فإنه آثم قلبه.
الرؤية الثاقبة..والمواقف النبيلة
كلّما حلت مناسبة وطنية كان الكثيرون يفضلون التناول الإعلامي على طريقة “كنا وأصبحنا” بصيغة الماضي والحاضر، بينما هو فقط الذي يروج للمستقبل ميالاً إلى نقد الماضي بموضوعية وشفافية حتى أنه اختار طواعية مطلع تسعينيات القرن الماضي خلال حديثه إلى طلاب وطالبات جامعة السلطان قابوس أن يتحدث بجرأة وصرامة ضد محاولات “مصادرة الفكر”، والذي أظنه قاصداً من ورائه خطاب التطرف الديني حيث كانت ملامحه البغيضة قد بدت في الأفق الذي لا يرى مكنوناته أولو الأبصار انما أصحاب البصيرة،رافضا أن تحتضن التربة العمانية الطيبة مثل هذه النباتات الخبيثة، داعياً إلى حتمية تنقية التراث وأهمية تجديد الخطاب وضروة احترام العقل، مسجلاً بحدسه التاريخي المعهود “سبقاً كونياً” في التصدي لمسألة شائكة ظلت غائبة عن الكثيرين حتى من علماء الدين إلى أن ترعرعت تلك النباتات الخبيثة في غير مكان من أرجاء المعمورة ووجدت “من يرعاها ويرويها ويغذّيها” لتشكل لاحقاً سلسلة من التداعيات الخطيرة التي تكاد تحرق الأخضر واليابس، تهلك الزرع والنسل وتدمر بلاداً كثيرة وعباداً أكثر.
امتنع عن الانصياع لنداءات “قمة الصمود والتصدي” في بغداد أواخر سبعينات القرن الماضي بمقاطعة مصر وعقابها بنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس جزاءَ ما اقترفه رئيسها الأسبق أنور السادات، رحمه الله، من جريمة ظنوها بزيارته للقدس التي أسفرت لاحقاً عن توقيع اتفاقيات السلام المعروفة باسم “كامب ديفيد”، وقامت عندها قيامة البعض يكيلون الاتهامات لعمان وسياستها وقيادتها. وتمضي السنون لتكشف مجريات الأحداث أن عمان كانت على حق حين تمسكت بالثوابت على حساب المتغيرات، وكأنها تقرأ المستقبل من كتاب مفتوح، فقد ذهب “الصامدون والمتصدون” لاحقاً فرادى وجماعات يهرولون إلى حيث “كامب ديفيد” المكان والرمز.
احتفظت عمان بعلاقات طيبة مع طرفين ــ العراق وإيران ــ دارت بينهما حرب طاحنة استنزفت من دماء شعوب الخليج وثرواتها الكثير والكثير، حتى بدت مواقفها محيرة لمن استعصى عليه الفهم ممن اختاروا التمسك بثقافة الجاهلية الأولى. ولم يعرف هؤلاء أو يدركوا أهمية هذا الموقف ودلالالته! ومرة أخرى اختارت عمان الجانب الأصوب حين تمسكت بثوابت الجغرافيا على حساب متغيرات التاريخ، وهو الموقف المتوازن الذي أهّلها دون غيرها لأن تلعب أدواراً مهمة وحيوية من أجل السلام في المنطقة قدر استطاعتها، فكانت قبلة للباحثين عن إحلاله والراغبين من الطرفين أو من أطراف ثالثة سعت حينها إلى ذلك.
وما أن انتهت حرب الخليج الأولى التي ظننّا أو تمنّينا أن تكون “آخر الأحزان” حتى بدت ملامح صدام جديد في شمال الخليج المأزوم، وجرى ما جرى من أحداث في موقعة “الأطباق الطائرة” في مقر جامعة الدول العربية بين أنصار التدخل العسكري لما سمّوه حينها “تحرير الكويت” وبين دعاة “الحل العربي” للأزمة. ورغم موقفها المبدئي الرافض لاحتلال الكويت مرسلة بقوات رمزية إلى حفر الباطن ضمن ما يسمى بقوات “درع الجزيرة”، فقد ظلت حتى قبل ساعات من بدء ضربات ما سموه حينها بـ”التحالف الدولي” تسعى من أجل نزع الفتيل رغم عدم صدور قرار أممي يخول أحداً بالتدخل العسكري. لكن الأكمة كانت تخفي ما وراءها، وقد حذّر السلطان قابوس حينها “قبل أن تقع الفأس في الرأس” كما يقولون من التداعيات المحتملة للعمليات العسكرية في الخليج، وكان من بينها (على حد علمي) تحذيرات واضحة ومكشوفة من فتح بوابة الفتن على مصراعيها ــ طائفية كانت أم عرقية أم مذهبية ــ وهو تماماً ما جرى لاحقاً ويجري الآن وسيجري غداً وربما بعد غد. ومرة أخرى تثبت رؤية السلطان قابوس صوابها “ولو كره الكارهون”.
وعلى أطرافه الشمالية الشرقية كانت حرب الخليج الثالثة التي انتهت بتدمير العراق الذي تحوّل إلى بقايا دولة منهكة تترنح بين قبضة أبنائه تارة والقادمين من وراء الحدود تارة أخرى بعدما خرج مارد الطائفية والعرقية والمناطقية والمذهبية من القمقم الذي كان قد سبق لعمان وسلطانها الراحل قابوس أن حذّرا من مخاطره. وإذا كان المثل الشعبي الشائع يقول: “اللي يحضر العفريت يصرفه”، فإن الذين يتبارون من أجل جلب أو إحضار عفاريت الدنيا كلها إلى المنطقة فشلوا وسوف يفشلون في صرفها. بل وربما ينقلب السحر على الساحر فيصبحوا على ما فعلوا نادمين حين لا ينفع الندم. فوارق هامة بين الرشد السياسي والمفاهيم القاصرة، بين الحكمة والاندفاع، بين قراءة واعية للمستقبل وأمّية عاجزة حتى عن فهم أبجديات الواقع.
احتضنت مسقط مفاوضات دولية حول “الملف النووي الايراني”، وسعت إلى التقريب بين وجهتي نظر الطرفين من أجل الحفاظ على منطقة الخليج بعيداً عن المزيد من النزاعات المدمّرة. وتعرضت ــ كالعادة” ــ لجهالات البعض من الذين بدا أنه يصعب عليهم العيش في أجواء خالية من الفتن، لكنها لم تعر ذلك اهتماماً أو عناية وتركت القافلة تمضي ومَن وراءها ينبحون. ومرة أخرى يؤكد النهج العماني نجاعته، فقد توصلت الأطراف المتفاوضة إلى اتفاق تاريخي، بمعنى أنه سيشكل فاصلاً زمنياً بين مرحلتين ــ دون دخول في المزيد من التفاصيل ــ شاء من شاء وأبى من أبى،وذلك على الرغم من لعبة شد الحبل الجارية حاليا بين ايران من جانب والولايات المتحدة من جانب اخر بكل ما تحمله تلك اللعبة من مخاطر الخطأ في الحسابات.
امتدّت يد السلطان الراحل بالعون والمساعدة في مشارق الأرض ومغاربها، لكن عمان لم تكن يوماً من بين الذين يُتبعون صدقاتهم بالمنّ والأذى، فنزل ثوابها برداً وسلاماً على أبنائها متمثلاً في نعمة الأمن والأمان والمحبة والتآخي. لا ضغينة في نفوسهم لأحد، أيديهم ممدودة بالخير، قلوبهم مفتوحة بالحب وعقولهم منفتحة لقبول الآخر دون تمييز في اللون أو الجنس أو الدين.
هو الذي قال مبكراً بأنه لا يريد أن ينظر إلى خارطة العالم فلا يجد فيها بلداً غير صديق لعمان، ولعل ذلك ما يفسر لي على الأقل تلك العبارة الرسمية التي تتكرر في مناسبات عديدة عند الحديث عن الدول العربية والأجنبية بوصفهم “الشقيقة والصديقة”. وكان له ما أراد حتى جعل من الصورة الذهنية للشخصية العمانية لدى الآخرين في كافة أنحاء العالم مطبوعة بالتحضر والإلفة والمودّة والتسامح.
عمان قابوس لم تكن يوماً رأساً لفتنة أو ذيلاً لمحترفي صناعتها وترويجها، بل ظلت على الدوام “فاعل خير” تعمل من أجل السلام والمحبة ليس في رقعتها الخليجية فحسب، إنما على امتداد الساحة الكونية وفق مفاهيم إنسانية حضارية راقية ربما غابت عن الكثيرين. فقد كانت الدولة الخليجية ــ وأزعم بأنها العربية أيضاً ــ الوحيدة التي نجحت بامتياز في تسوية مشاكلها الحدودية مع جيرانها كافة، والتي كان آخرها الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية مع الجمهورية الإيرانية الإسلامية. وليس ذلك فحسب، فلا زلت أتذكر كيف كان مسار الاتفاق الحدودي شاقاً وصعباً مع الجمهورية اليمنية لينتهي إلى حيث يرضى الطرفان. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى فلسفة السلطان قابوس حين اختار هو بنفسه اسماً للولاية الواقعة أقصى الغرب من محافظة ظفار المتاخمة للجمهورية اليمنية، فقد اختار لها اسم “المزيونة” التي تعني الجمال بكل مفرداته، متخذاً حينها قراره بتحويلها إلى “منطقة تجارية حرة” في دلالة لا يخطئها المتابعون، على الرغبة في أن يجعل من مناطق الحدود ــ التي ظلت مكمناً لألغام متفجرة وصراعات طويلة ــ واحات أمن وسلام ورخاء للجانبين. أو ليس إذاً هو صاحب رسالة واضحة وجلية لا يعيها إلّا أولو الألباب الذين يتفكّرون ويتدبّرون ويعقلون؟
في حضرة السلطان
ثلاثة عقود إلّا قليلًا قضيتها في ضيافة أشقائي الأعزاء من العمانيين وفي حضرة سلطانهم الراحل، سمحت لي بأن أكون شاهداً على حقيقة مهمة تبيّنتها يقيناً، وعندي من الحيثيات ما يكفي ، أننا أمام نموذج متفرد في القيادة، فهو ليس مجرد حاكم بل صاحب رسالة؟
فالحاكم يكفيه أن يعمل على إدارة شؤون بلاده ومحكوميه، وأن يرعى مصالح شعبه وحريات مواطنيه، وأن يحافظ على وحدة وسلامة بلاده، وهو بهذا المفهوم موظف بدرجة “رئيس دولة” ــ بغض النظر عن مسميات الملكية أو الرئاسية أو الأميرية ــ وجميعهم في ذلك سواء يجتهدون، أو هكذا من المفترض أن يكونوا، من أجل توفير حياة كريمة لمواطنيهم قدر استطاعتهم بكل تفاصيل هذا المعنى من أمن ومسكن ومأكل ومشرب وتعليم وصحة. لكنّ السلطان الراحل كان أرفع من ذلك بكثير، وأقول “صاحب رسالة” لأنه عمل دوماً على تغيير مفاهيم وتصحيح أخرى، وإرساء مبادئ وقيم أخلاقية وسياسية واجتماعية كانت تتخذ في حراكها أبعاداً إنسانية ليست وطنية فحسب، وإنما تجاوزت ذلك إلى آفاق كونية غير منكورة تمثلت في هموم إنسانية مشتركة لا تفرق بين أقوياء وضعفاء ولا أغنياء أو فقراء.
فعلى الصعيد الوطني، كانت يده ممدودة بالعطاء للجميع “فرادى وجماعات” حتى أنني أزعم بأن أحداً من بين العمانيين لم ينل من الرعاية القابوسية نصيباً أو حظاً، لم يردّ سائلاً من بينهم أو يحجب عنه العطاء، حتى الذين أساءوا من بينهم كانت يده ممدودة إليهم، يتخذ من هدي القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة منهاجاً في التعامل متأسياً بهما }لا تستوي الحسنة ولا السيئة.. ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم{. كان ذلك هو منهاجه في التعامل مع البعض من العصاة، فالعفو والصفح والتسامح عنده أقوى بكثير من حكم القانون وأمضى من سيفه وأعدل من قضائه، فهو الذي بدأ رسالته في مطلع سبعينيات القرن الماضي بمقولته الشهيرة “عفا الله عما سلف، عفا الله عما سلف، عفا الله عما سلف”. فكانت البداية بالعفو حتى عن هؤلاء الذين سوّلت لهم أنفسهم حمل السلاح ضد الدولة ثم تابوا ليجدوا أحضان عمان قابوس مفتوحة لجميع أبنائها عفواً وتسامحاً وسماحة وعطاءً. وأقول مكرراً بأن عندي من الحيثيات ما يكفي للدلالة القطعية وزيادة؟
كنت شاهداً على شريعته ومنهاجه لثلاثة عقود إلّا قليلاً ــ ومن يكتم الشهادة فإنه آثم قلبه ــ فهو الذي يتخلى عن حياة القصور لينزل إلى “مخيمات السيوح” في كافة الأرجاء العمانية التي لا تزال تشهد بما جرى ويجري فيها من لقاءات عفوية بين السلطان ومواطنيه، حاملاً في كل مرة رسالة أو مُرسياً لمبدأ أو مسدياً نصائح أو قاضياً لحاجات. وهي اللقاءات التي تكشف بوضوح عن رجل لا يجد سعادته الحقيقية إلّا بين مواطنيه. وإذا كان الإحساس الصادق يجد طريقة من القلب إلى القلب مفتوحاً يسيراً مفروشاً بورود المحبة والوفاء والإخلاص، فإن لقاءات السلطان بمواطنيه التي ليس دونها حجاب، كانت عاكسة لأصدائها في النفوس والقلوب والعقول وفاءً وإخلاصاً وفداءً لنموذج يرون في شخصه مفرّجاً لكرباتهم عند الضيق، ومنصفاً لفقرائهم من ذوي الحاجة قبل أثريائهم من ذوي التخمة.
هو صاحب رسالة مفهومة “وإن كانت غير معلنة” حين ينأى بنفسه عن حضور مؤتمرات “القمم العربية” التي كشفت خلال العقود الماضية عدم جدواها بعد أن تبين “للقواعد العربية” أنها لم تعد تساوي قيمة الأوراق والأحبار التي تصاغ بها بياناتها الختامية، كما أنني أخشى القول بأنها لم تعد بيتاً يلمّ شمل العرب بقدر ما أصبحت ــ وللأسف البليغ ــ مصدراً لتشتيتهم وتقطيع أوصال أوطانهم، وموطناً للعراك والتشاحن والبغضاء التي تبدو على الألسنة، وما في الصدور أعظم.
وهو صاحب رسالة كونية تمثلت في مساع حثيثة، منذ بدايه عهده، للحفاظ على البيئة باعتبارها مسؤولية إنسانية عابرة للحدود، حتى أن عمان كانت هي الدولة العربية الوحيدة التي أنشأت وزارة متخصصة في حماية البيئة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي يختزن أرشيفها الكثير من الإنجازات التي لم تقف عند مساعي حماية الإنسان من مخاطر التلوث بدءاً من ثقب السفن النفطية العابرة لمياه الخليج وانتهاء بثقب الأوزون، وإنما طاولت رعايتها الكائنات البرية والبحرية الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض حفاظاً على التوازن البيولوجي، حبث كان لعمان السبق أيضاً في دعوة العالم من أجل الحفاظ على هذا التوازن النوعي والميزان الإلهي امتثالاً لما جاء في سورة الرحمن }والسماء رفعها ووضع الميزان.. ألّا تطغوا في الميزان{ الذي نظنّه حماية البيئة والحفاظ على توازنها من خطر الاختلال.
بين الأصالة والمعاصرة
هو أيضاً صاحب رسالة حين يرسّخ في بلاده وبين مواطنيه مبدأ “التوازن” بين الأصالة والحداثة، بين الدين والدنيا، بين الديموقراطية والفوضى، وبين الرجل والمرأة باعتبارهما طرفي العلاقة الرفيعة في المجتمعات الإنسانية وفق قواعد وتقاليد مجتمعية عمانية وضوابط وحدود شرعية إسلامية.
فرغم نجاحه المبهر في التأسيس لدولة عصرية حديثة ــ بالمظهر والجوهر ــ كانت الأصالة حاضرة بمفهومها التراثي الأصيل الذي لم يجد عناءً في البحث عن جذوره الضاربة في القدم. فإلي جوار البنايات الحديثة والمصانع والمتنزهات والحدائق والشواطئ كانت صيانة مئات القلاع والحصون والأفلاج والفنون التقليدية والصناعات الحرفية المنتشرة جميعها في ربوع السلطنة، هي الأخرى مشمولة بالرعاية. فقناعته أن أي أمة تتخلى عن ماضيها لا مستقبل لها، وإن كان حاضرها يبدو مبهراً يسرّ الناظرين. وهكذا تمكّن من “تجذير” تلك المفاهيم في نفوس شعبه الذي يعتزّ كثيراً بتراثه، كما يطمح في ذات الوقت إلى أخذ ما يفيده من الحضارات الأخرى دون إفراط أو تفريط، واثقاً في نفسه وتاريخه وعراقة أجداده الذين كانوا يوماً سادة للبحار من شرق أفريقيا غرباً إلى حدود الباكستان شرقاً، ينشرون ثقافتهم ودينهم وتقاليدهم التي لازالت حاضرة تشهد لهؤلاء العظام الذين دخلوا إلى الإسلام طواعية وحباً وكرامة مساهمين في نشر تعاليمه أينما حلّوا ومتى يرتحلون. ولعل ذلك ما يكسبهم الثقة العالية بالنفس دونما شطط أو غرور لا تستهويهم أبراج أو ناطحات للسحاب أياً كانت مواقعها في موسوعات عالمية، فهم قوم لا يشتهون التطاول في البنيان وليسوا راغبين، عن “مبدأ وقناعة”، بالدخول في هذا الماراثون المحموم، وليس قصوراً أو تقصيراً! كما أنهم ليسوا بحاجة الى شراء أو “فبركة” تاريخ من قبض الرياح.
ورغم انتشار عشرات المساجد والجوامع التي تحمل اسمه، والتي بناها على نفقته الخاصة، في كافة المحافظات والولايات العمانية ــ والتي كان عنوانها الأبرز الجامع الأكبر في العاصمة مسقط ــ لم تكن الفنون الرفيعة غائبة عن المشهد العماني إنما هي حاضرة بقوة وفاعلية بدءاً من “الأوركسترا السلطانية” التي تأسست قبل خمسة وثلاثين عاماً، مروراً بجمعيات هواة العود والسينما والمسرح، وانتهاءً بدار الأوبرا السلطانية التي تعد الأولى في منطقة الخليج حيث تقدم الفنون العالمية في كافة المجالات الراقية التي تمتزج مع ما تقدمه من فنون عمانية وعربية وإسلامية لا يعرف الإسفاف والهبوط إليها طريقاً أو حتى منفذاً، مشكّلة بذلك نموذجاً كونياً للحوار بين الحضارات من مختلف أرجاء المعمورة.
هو صاحب نظرية “التدرج والجرعات” في التعامل مع التجربة الديموقراطية الحديثة التي نجحت في المواءمة بإتقان بين الحداثة والمعاصرة، فلم يكن ممكناً الانتقال بمجتمع محافظ يغلب عليه الطابع القبلي دفعة واحدة إلى حيث “الويستمنستر” على غرار مجلس العموم البريطاني. ولعل الشواهد قائمة على من فعلوها حين خرجوا عن تراثهم “مقلدين” الآخرين بنقل النموذج الديموقراطي الغربي “المعلّب” الذي لم يكن بالطبع قابلاً للنمو والازدهار في تربة مغايرة، وأمثال هؤلاء كان التقليد وبالاً عليهم وعلى أوطانهم التي تمزقت مع هبوب رياح خماسينية عاتية. ومن هنا كانت الحكمة القابوسية حاضرة كما هي دائماً، بادياً معها منطق “صاحب الرسالة” الذي تمكّن باقتدار مثير للإعجاب من الانتقال بالمجتمع العماني بين ثلاثة نوعيات من المؤسسات التمثيلية لمختلف فئات المجتمع بدأت بمجلس الزراعة والأسماك ثم المجلس الاستشاري للدولة، وأخيراً مجلس الشورى الذي تم الإعلان عن إنشائه مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي تدرّج هو الآخر بين الانتخاب على مرحلتين حتى وصلت التجربة العمانية إلى حالتها الراهنة من اختيار المواطنين الحر المباشر لممثليهم في الولايات الواحدة والستين بنزاهة مشهودة ووفق أحدث الأساليب العصرية من تصويت وفرز إلكتروني، لكن على أسس دعائية يمارسها المرشحون ملتزمين خلالها بالقيم العمانية العربية الإسلامية الأصيلة. كما أن صلاحيات تلك المؤسسات الشوروية جاءت هي الأخرى وفق تدرج محسوب وجرعات ملائمة لتطور المجتمع العماني، تضع حدوداً واضحة المعالم بين الديموقراطية الحديثة القائمة على أعمدة راسخة في الدين الإسلامي، وبين الفوضى التي تستورد نماذج معلّبة من وراء الحدود.
اختار لعمان تجربة “المجلسين” أحدهما منتخب والآخر معيّن، يضم كل منهما عدداً متقارباً من الأعضاء. ولأن المرأة العمانية لم يكن الحظ حليفها في الوصول إلى مقاعد المجلس المنتخب بالقدر الذي يتناسب مع مناصفتها للرجل في التعداد السكاني ــ رغم بعض الاختراقات النادرة التي لم تتجاوز المقعدين على فترات متباعدة في بعض ولايات العاصمة ــ لذلك فقد ذهب هو إلى تعيين عدد ليس بالقليل من النخب النسائية في مجلس الدولة، ما جعل نسبتهن تصل إلى خمسة عشر بالمائة تقريباً من بين أعضائه،فضلا عن تولي احداهن لمنصب نائب رئيس مجلس الدولة، رافضاً مبدأ “الكوتة النسائية” في المجلس المنتخب باعتباره يحرم المواطنين من حقهم في الاختيار من بين ما يرونه الأصلح لتمثيلهم من جانب، ونائياً بنفسه عن اللجوء إلى “الإجبار” على تغيير عادات اجتماعية لا تزال مترسخة في مجتمع لا يزال فيما يبدو “ذكورياً” بامتياز، وهو في ذلك يعزز ويرسخ حقيقة مفادها أن الخيارات المجتمعية والمفاهيم التقليدية لا يمكن تعديلها”عنوة” أو بين عشية وضحاها.
وعلى الرغم من ذلك فقد اكتسبت المرأة العمانية في عهده مكانة جعلتها رائدة بين نظيراتها ليس فقط في دول الخليج العربية، وإنما أيضاً في كافة البلدان العربية، حيث شغلت مناصب حكومية رفيعة، فكانت أول وكيلة وزارة في الخليج عمانية، وأول وزيرة عمانية، وأول عضو منتخب أو معين في مجلس إدارة غرفة تجارة وصناعة عمان عمانية أيضاً، وذلك فضلاً عما ينص عليه النظام الأساسي للدولة من مساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات ضمن إطار من الشريعة الإسلامية السمحاء.
….
حدث في صلالة
لم يكن يوماً فظاً ولا غليظ القلب، لكنه كان رحيماً ودوداً يرفق بالمحتاجين مواسياً لهم، يتألم لألمهم أينما كانوا لا يريد منهم جزاءً ولا شكورا.
واقعة وراء أخرى، وموقف يتلوه آخر تكشف لي رويداً رويداً عن أسرار حالة الحب النادرة بين السلطان ومواطنيه والتي لم تكن قصة وهمية مصنوعة من طرف واحد يتعذّب دون أن يشعر الآخر بأحاسيسه ومشاعره، إنما هي قصة حب حقيقية تأسست على أعمدة راسخة وحقائق وقرت في القلب وصدّقها العقل.
في عام 1995م وقعت حادثة مرورية عند أحد الدوارات، حيث اصطدمت سيارة مسرعة بأخرى ماركة “بي إم دبليو” نتج على أثرها وفاة أحد ركابها وإصابة الثلاثة الآخرين الذين كان من بينهم سائقها. نزل المواطن من سيارته سليماً معافى ليستطلع الأمر، وإذا به يسقط مغشياً عليه حينما عرف يقيناً أن سائق السيارة “البي إم دبليو” الذي ينزف دماً لم يكن سوى السلطان الراحل قابوس، وأن مرافقه الذي كان يجلس إلى جواره وتوفي على الفور هو المرحوم قيس بن عبدالمنعم الزواوي نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية آنذاك، وأن أحد المرافقين على المقعد الخلفي هو شقيقه الدكتور عبدالمنعم الزواوي مستشار السلطان للاتصالات الخارجية؟
كان من عادة السلطان الراحل أن يتجوّل في صلالة ــ وأحياناً في مسقط وغيرهما ــ بسيارته دون مواكب أو حراسات ظاهرة للعيان، وكانت تلك واحدة من بين هذه المرات العديدة. انتقل الخبر كالنار في الهشيم، وانخلعت قلوب العمانيين الذين كنت أطالع أشباح الفزع في عيونهم حيث أجلس في أحد المطاعم لتناول طعام العشاء مع مذيعة شهيرة في “صوت العرب” كانت حينها في زيارة للسلطنة، وذلك قبل أن يخرج على شاشة التلفاز المذيع مبتسماً ليعلن عن نجاة السلطان قابوس من حادث مروري، وأنه في صحة جيدة. والتقط المتابعون المتحلقون حول الشاشة أنفسهم يردّدون عبارات الحمد مبتهلين شكراً إلى الله العليّ القدير.
تبيّن لاحقاً أن إصابة السلطان كانت بعضاً من الخدوش في ذراعه التي يبدو أنها نجمت عن تهشم زجاج السايارة الأمامي، فالاصطدام المباشر بالجانب الأيمن حيث كان يجلس المرحوم قيس… لكن ماذا عن المواطن الذي صدَم سيارة السلطان؟
هو أحد موظفي مكتب الإعلام في محافظة ظفار، اقتادته الشرطة إلى أقرب مركز حيث تم احتجازه بانتظار اتخاذ ما يناسب من إجراءات قانونية ضده؟ وما أن انتبه السلطان من صدمة الحادث الأليم حتى سأل عن سائق السيارة فأخبروه بأنه في السجن، لكنه أمر بالإفراج عنه على الفور وتعويضه لاحقاً بسيارة بديلة عن سيارته المتضررة. رسمت الحادثة أكثر من سؤال وأكثر من دهشة: فلماذا كان أمر الإفراج الفوري؟ ولماذا تعويضه بسيارة جديدة؟
كانت الإجابة تقول بأن السلطان الراحل قابوس هو الذي تجاوز الطريق “سهواً” حيث كان يجب الانتظار، وأن الرجل – الموظف البسيط – لم يخالف قواعد المرور. ليس عندي تعليق إنما أكتفي فقط بالتساؤل: ماذا لو أن حادثاً مشابهاً وقع مع رئيس دولة عربية، مع فرضية جدلية: أن هؤلاء يسيرون في الطرق بدون حراسات كما هو سلطان عمان الراحل، ودون أن تغلق لهم الطرق قبل مرورهم بساعات ويُخلوها من المارة حتى تمضي مواكبهم أمنة مطمئنة؟
الشعب يريد….
أحداث مؤسفة تلك التي جرت في العديد من البلدان العربية مع بداية العام 2011م، لكنها لم تكن مفاجئة من منظوري الشخصي على الأقل، فالتظاهرات التي خرجت إلى الميادين والشوارع ترفع شعارات تتلخص في المطالبة بـ”الكرامة الإنسانية والحريّة والعدالة الاجتماعية” كانت جميعها متوقَّعة باعتبارها ناتجة من تفشّي فيروس عدم المناعة الداخلية في العديد من الدول العربية، حيث عجز الكثيرون من هؤلاء المفترض أنّ مهمتهم ومسؤوليتهم المحورية تتلخّص في قياس نبض الشارع ودرجة حرارته وقراءة المؤشرات كما هي بصدق ودون تزييف، فهؤلاء لم يكونوا عند مستوى المسؤولية بالقدر الكافي، مكتفين باعتناقهم مبدأ “كله تمام” ربما حرصاً على الاحتفاظ بمقاعدهم إن حسنت النوايا، أو ربما لأسباب أخرى إن ساءت؟!
على أية حال، فقد زاد من حدة الحالة العربية تبديد الثروات الوطنية أحياناً، ونيران الحرمان التي جعلت من ثمرات التنمية حكراً على أصحاب الحظوة من المنتفعين والانتهازيين من “حملة المباخر” في غالب الأحيان، حتى تكاثف بخار الغضب ليقذف بغطاء الوعاء الوطني في وجوه الجميع. لكن ذلك لا يمنع من أمانة الاعتراف بأن هذا الحراك الشعبي لم يكن عفوياً في الكثير من الأحيان، إنما كان مدفوعاً بعوامل خارجية استحسنت ما يجري، ووجدت الفرصة المؤاتية لتنفيذ ما كانت قد أفصحت عنه قبل سنوات من مسميات أشهرها “الفوضى الخلّاقة” التي أظنها تعني أن تمارس شعوب المنطقة ــ كل منهم ضمن نطاق حدوده أو حتى فيما بين بعضهم البعض ــ نوعاً من الاحتراب طويل المدى الأقرب إلى “الانتحار الجماعي”، حتى بدا أن الجميع يخضع لنسخة تكاد تكون متكررة من الشعارات والهتافات، ما يشير إلى أن الصانع والمحرّك واحد وإن تعدّدت الدوافع والمسببات والأدوات والوسائل؟
جميع التظاهرات والإضرابات والتجمّعات التي انتشرت في البلدان العربية كان القاسم المشترك الأكبر لشعاراتها هو عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”، إلّا أن ما استوقفني هو ما جرى في سلطنة عمان حيث لم يرفع أحد على وجه الإطلاق عبارة كهذه أو ينطق بها، إنما كانت المطالب إصلاحية كما يظنها أصحابها، على غرار المطالبة بتوفير فرص عمل للشباب الذين تبيّن لاحقاً أنهم يفوقون المائة والخمسين ألفاً رغم تقارير أصحاب مبدأ “كله تمام” السابقة بأنهم لا يتجاوزون الأربعين ألفاً فقط، إلى جانب المطالب الداعية إلى توسيع اختصاصات مجلس الشورى، ومحاسبة متنفذين ظنوا أنهم امتدّت أيديهم بغير الحق إلى المال العام… وبدت حينها مطالب مشروعة يمكن التعامل معها. كانت صورة السلطان قابوس مرفوعة فوق الأعناق، كما أن الشعار الذي رفعه العمانيون على لافتاتهم حينها في كافة التجمعات يقول بأن “الشعب يريد حماية النظام”. والفرق شاسع بين الإسقاط والحماية!
كنت شاهداً ومتابعاً وراصداً لكل ما جرى، وأزعم أن حالة الحب والتوقير الذي يرقى إلى حد القداسة من جانب العمانيين لسلطانهم، يقابلها هو على الطرف الآخر بعدم القبول بغير الوقوف في خنادق محبّيه وأبنائه، خصوصاً إن بدت أمامه بعض من الحقائق التي ربما كانت غائبة أو تم تغييبها…استجاب لما هو مشروع وممكن من مطالبهم، لكنه في ذات الوقت وقف بحزم القانون في مواجهة المخرّبين أو الداعين إلى الفوضى.
في ذمة الله
مخطئ من يظنّ أنّ الأماكن لا تحزن كما البشر، ولا تصاب بالكآبة مثلما تصيبهم. فقد شعرت بذلك بنفسي عام 2014م حين رأيت الطرق في مسقط ليست هي التي اعتدت عليها، كما هي وجوه البشر، اختلفت وغطّتها سحابة من الحزن الدفين. البنايات ليست هي. الحياة تمشي نعم لكنها ثقيلة الخطى عابثة الأداء. كل شيء تبدّل من حولنا هنا في مسقط حين تم الإعلان رسمياً عن سفر السلطان الراحل قابوس في رحلة علاجية إلى الجمهورية الألمانية، وكانت المرة الأولى التي يُعلن فيها عن هذا النوع من الزيارات، فانتابت الجميع مشاعر القلق. لكن الغياب طالت مدته: شهر، شهران، ثلاثة… إلى أن بلغ الشهر السابع أو يزيد. كانت الأيام والليالي تمضي ثقيلة مريرة حزينة، فالكل أمام المجهول يملأه القلق والخوف على صحة السلطان الذي امتلك القلوب عن استحقاق وسكن العقول عن جدارة. الكل يعرف ما جرى، وأجد نفسي لست بحاجة أو في “قدرة” على الخوض في المزيد من التفاصيل.
ويخطئ من يظنّ أن الأماكن من شوارع المدن والقرى والحارات لا تفرح كما البشر، ولا تطرب مثلما هم يطربون، فقد رأيت ذلك بنفسي حين ظهر السلطان الراحل قابوس في كلمة متلفزة قصيرة من منزله في ألمانيا مخاطباً شعبه، يزفّ لهم بشرى سلامته، موجّهاً لهم الشكر ومثمّناً مشاعرهم تجاهه التي يعرفها جيداً كما هم يعرفونها بالضبط. انتقلت عمان من حال إلى حال. الناس يهنئون بعضهم بعضاً على سلامة السلطان، لا فرق في ذلك بين مواطنين ووافدين وإن تباينت وتعدّدت جنسياتهم. المواطنون يهنئون بعضهم ويتلقّون تهاني الوافدين بفرحة وسعادة. حتى الوافدون رأيتهم يهنئون بعضهم بعضاً؟ وهي المشاهد نفسها التي تكررت، وأكثر، حين عودته سالماً معافى إلى أرض عمان؟
..واليوم..قابوس في ذمة الله..وانا لله وانا اليه راجعون..والعزاء الحقيقي ليس حزنا يحرق القلوب ولا دموعا تذرفها العيون بقدر ما هو عزيمة وصلابة وقوة يتسلح بها العمانيون لمواجهة تحديات المستقبل من ناحية،والحفاظ على مكتسبات الماضي من ناحية أخرى.
لا تهنوا..ولاتحزنوا
أشهد بصدق وموضوعية وإخلاص وأمانة أن تطلعات الأجيال الصاعدة “وإن كانت مشروعة” فإن من الضروري أن نسدي إليهم بنصيحة خلاصتها أن الأموال “وإن تكاثرت وتضخمت” لا تصنع رجالاً ولا تبني تاريخاً ولا تقيم حضارة ولا تنهض بمجتمعات ما لم يكن قوامها أخلاقياً يرتكن إلى مبادئ وقيم وأصول وأعراف نحفظها لتحفظ لنا بقاءنا، ونصونها لتبقي لنا هويتنا التي تستوجب الاعتزاز }فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون{ ليس بالدولار والدرهم والدينار والريال، وليس ببريق الذهب والفضة.
أقول للعمانيين الذين قضيت بينهم ثلاثة عقود إلا قليلاً، أعرفهم ويعرفونني، أحترمهم وأظن أنهم يبادلونني نفس المشاعر. أقول لهم بأن العناية الإلهية بعثت إليكم بثروة هائلة تتمثل في شخص السلطان الراحل قابوس الذي، بحكمته ونهجه وحسن أخلاقه وتدبيره، نجح في أن يحفظ عمان من كل مكروه آمنة مطمئنة. وتلك حقيقة ليست بحاجة إلى روايات الأجداد والآباء إنما تحتاج فقط إلى النظر من حولنا لمتابعة ما يجري من أحداث ومصائب، وأخشى القول ربما الآتي أعظم: أوطان تضيع وشعوب تتهجر عن مواطنها بفعل حماقة حكامها تارة ودعاة الفتنة ومروّجيها تارة أخرى. هل يمكن لمن يشتهون الأموال بأي ثمن أن يقولوا لنا كم تساوي نعمة الأمن في بورصة الضياع؟ وكم تساوي نعمة الوئام في جحيم التناحر؟ فكم من أمم امتلكت ثروات طائلة، وتمتلك، لكنها تفتقر أو تكاد إلى تلك النعم، فليتفضلوا بشرائها بأموالهم التي يكتنزونها إن كانوا يستطيعون. وكم من أمم تزينت بلدانها وأخذت زخرفها وظن أهلها أنهم قادرون عليها بينما هي في حقيقتها تتهاوى فسقاً وفجوراً وفساداً وإفساداً.
تمسكوا بنعمة الأمن والأمان والوئام ومكتسبات الدولة العصرية الحديثة التي ما كان لها أن تكون بغير الراحل العظيم وسواعد مواطنيه الاوفياء، وما كان لها أن تبقى بمعزل عن التمسك بمبادئه وأخلاقياته،والسير على نهجه من بعده خلف السلطان هيثم بن طارق بن تيمور أل سعيد الذي اختاره السلطان الراحل بعناية عن حكمة ودراية باعتباره من توسم فيه القدرة على مواصلة المسيرة القابوسية بكل تفاصيلها،كما أجمعت على اختياره كافة الاطياف العمانية..وهو خير خلف لخير سلف باذن الله..أحسنت قولا وفعلا واختيارا لخليفتك..وداعا ياقابوس…وداعا أيها السلطان..الانسان..وصاحب الرسالة.
الموضوع السابق