شهرية ..مستقلة

“شباك مكسور” تواصل نجاحها في المهرجان القومي للمسرح

0

أمنية طلعت

تبني الكاتبة المسرحية المميزة رشا عبد المنعم الدراما الخاصة بمسرحيتها “شباك مكسور” على نظرية “النوافذ المحطمة” في علم الجريمة والتي وضعها كل من جيمس ويلسون وجورج كلينج، وهي تقوم على أساس أن صغائر الأمور هي بدايات عظائمها، حيث يرى المُنظران أن الجريمة هي نتاج الفوضى وعدم الالتزام بالنظام في المجتمعات البشرية، فإذا حطم شخص نافذة زجاجية في الطريق العام وتُركت دون تصليح، فسيظن الناس من المارة أن أحداً لا يهتم، وبالتالي يمكن تحطيم المزيد من النوافذ وتبدأ الفوضى من بيت لبيت ومن البيوت للشوارع ثم إلى المجتمع كله.

ولا تقتصر النظرية على النوافذ فقط، بل تشمل السيارات المهجورة ومقالب الزبالة في المناطق السكنية والشوارع المظلمة، فكلها دعوات مبطنة إلى مزيد من الفوضى ثم انتشار الجرائم العشوائية فالمنظمة وهكذا حتى تنهار المجتمعات والدول.

قد تبدو النظرية معقدة في تأويلها الدرامي، ولكن رشا عبد المنعم قدمتها في إطار كوميديا اجتماعية مأساوية، كان من الممكن أن تنتهي نهاية ميلودرامية مثيرة، وقد كادت الكاتبة أن تفعل، لولا أن آثرت رسم ابتسامة على الوجوه وإن كانت ابتسامة ساخرة.

تبدأ المسرحية في إطار مرح أشبه بفيلم “عائلة زيزي” والذي بدأ بالطفلة زيزي وهي تعرفنا بأفراد عائلتها العجيبة، حيث يقوم الأب “عطية” الموظف المطحون بتقديم عائلته للمشاهدين، بعد أن يشرح لنا في عجالة وبطريقة مرحة وضعه الاقتصادي وكيف أن بيته لولا الشباك المكسور الذي يطل على “خرابة” لكان بيتاً جميلاً ذو رائحة عطرة، بعدها نبدأ في التعمق مع كل شخصية، فعم جمعة البواب استفاد من الخراب وصنع ثروته الطفيلية، والجدة المقعدة على كرسي متحرك تعيش حياتها كعجوز متصابية تعاكس الشباب من خلال الهاتف المحمول، والزوجة فاطمة تهرب من حياتها التعسة في التشدد الديني أملاً في الجنة كحل وحيد لحياتها القاهرة، والابن خالد يعيش مشتتاً بين الشعارات الفلسفية والسياسية ولا يلتفت إلى الواقع المأساوي لعائلته، والابنة الكبرى التي تلحق بقطار الزواج في آخر محطة له، ورغم قبولها بزوج فقير بلا مميزات، يهرب منها وتعود إلى بيت أبيها بطفلين، أما الإبنة الصغرى فقررت أن تعيش في عالم موازٍ يمتلئ بالجن والعفاريت والقوى الخارقة، وزوج الابنة الكبرى الذي يهرب لعجزه عن سداد الديون التي عاش وأسس أسرته معتمداً عليها.

صورة كاملة من التشظي الأسري الذي يعكس حالة المجتمع الذي نعيش داخله، وكل فرد داخل الصورة لا يحاول أن يبدأ بنفسه لإصلاح “الشباك المكسور” ويلقي باللوم على الآخر لكل الدمار الذي يحيط بهم، فالكاتبة لم تغفل أبداً أثناء تصعيد أحداث مسرحيتها، أول الخيط الذي انطلقت منه، فلعب “الشباك المكسو”ر دور البطل المحوري في الأحداث، فمثلاً نجد البواب يتدخل في شئون الأسرة وقراراتها من خلال الشباك الذي يتلصص عبره عليهم، فهو دائماً يدخل إليهم من خلاله دون أن يعترض أيٍ منهم. كذلك نراهم يلقون بمخلفاتهم عبر الشباك وهم يتأففون من القمامة المكدسة في الخرابة أسفل شباكهم، فالابنة الكبرى تلقي بحفاضات رضيعها من الشباك وهي تسد أنفها وتشكو من القمامة المتنامية أسفلهم، دون أن تفكر في أنها تساهم في تكدسها أو حتى تفكر في أن تتوقف. أما الزوجة فهي تبدأ دائماً شكواها بالقول (ما هو لو كنا صلحنا الشباك)، كذلك يلعب الشباك دور شاشة التلفاز في إسقاط واضح لدور الإعلام في المجتمع، وهكذا ترتبط الأحداث بالمسرحية بتلك النافذة المحطمة التي لا يأخذ أحد مبادرة تصليحها، بل يستسلمون جميعاً للانهيار.

رغم أن الأحداث مكتوبة في إطار ملهاة خفيفة بعيدة عن الإفيهات والحركات البهلوانية، ورغم مأساوية الشخوص والأحداث، إلا أن المسرحية نجحت بقوة في إخراج الضحكات من قلوب المشاهدين، بل إنهم تفاعلوا أيضاً مع الممثلين وكانوا يجيبون على تساؤلاتهم، وهنا تبرز مهارات رشا عبد المنعم في الكتابة المسرحية، فهي كاتبة تمتلك وعياً شديداً بمفردات الدراما والقبض على تسلسل أحداثها وتصعيدها دون مبالغة، ورسم شخوصها بحرفية لتتعاشق مع الأحداث في تطور هادئ يقود المشاهد إلى نهاية منطقية بعيدة عن الانفعال.

قبض المخرج شادي الدالي بكلتا يديه على مداخل ومخارج نص “شباك مكسور” واستطاع ترجمته على خشبة مسرح الطليعة ببساطة ذكية، وربما كانت أهم خطوة هي نجاحه في اختيار مجموعة الممثلين الذين لعبوا بطولة العرض، حيث الفنان والإعلامي الكبير أحمد مختار في ثوب جديد عليه يضيف إلى مشواره الفني، بلعب دور الأب أو الموظف المطحون عطية، وكذلك الفنانة نادية شكري التي عرفها الجمهور من خلال مسرحية “العيال كبرت”، لتطل علينا في دور الأم فاطمة وتؤديه بنفس خفة الروح المعروفة عنها، لكنها أيضاً تقدم مسحة تراجيدية متميزة تجسدت في المونولوج الذي خاطبت فيه الله مؤكدة عليه أن يمنحها الجنة لتعيش فيها كل ما حُرمت منه على الأرض.

يسيطر شادي الدالي على فضائه المسرحي ولا يغفل أي من جوانبه، فيستطيع توزيع حركة الممثلين على جانبي الخشبة وفي المنتصف بحيث تُبرز بطولة الشُباك دائماً، فالمشاهد طوال أحداث المسرحية التي تقتصر على فصل واحد، يعي أن تلك النافذة لها دوراً مفصلياً يجب التركيز عليه ومتابعته بدقة.

يرسم الدالي أيضاً لوحات إبداعية بحركة الممثلين على الخشبة، فأنت ترى تكوينات تشكيلية مُعبرة عن الأحداث في كل المشاهد خاصة مشهد “الحلم” الذي خرج متكاملاً من حيث الأداء والإضاءة والحركة.

استطاع وائل عبد الله أن يصمم ديكوراً ساهم بشكل كبير في تعميق وتجسيد الدراما ونفس الشئ بالنسبة للأزياء التي فصلت لأبعاد كل شخصية بوضوح، خاصة الجدة التي لعبتها الفنانة ربا شريف إمام بمهارة ملحوظة، فهي تجلس طوال الوقت على كرسي متحرك يلفها شال يغطيها بالكامل ولا تغادر الخشبة أبداً، لنفاجأ بها في مشهد الحلم تنهض وتنزع عنها الشال، فتظهر بثوب أُنثوي رقيق وترقص ببراعة مستعيدة شبابها وأيامها الغضة، ومن ثم تعود إلى كرسيها المتحرك في وضع الجدة مرة أخرى.

مسرحية “شباك مكسور” عمل ينافس بقوة على أكثر من جائزة في الدورة الثانية عشر المهرجان القومي للمسرح.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق