شهرية ..مستقلة

تجسيد اغتراب الإنسان المعاصر في “حذاء مثقوب” على مسرح العرائس

0

أمنية طلعت

ضمن المسابقة الثانية والتي تضم عروض الجامعات ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح، قدمت فرقة بانجية التابعة لجامعة عين شمس عرض “حذاء مثقوب تحت المطر” من تأليف محمد السوري الذي أخذه عن نص كافكا، ومن إخراج عمرو عفيفي، على مسرح العرائس.

يجسد نص “حذاء مثقوب” معاناة الإنسان المعاصر داخل منظومة الحياة المادية الرأسمالية والتي تتوحش متوغلة في حياتنا، لتحول مفردات أيامنا لآليات متشابهة تأكل القيم الإنسانية، بل تأكل صفاتنا البشرية أيضاً، لتحولنا إلى آلة تدور بسيور تتقافز على تروس، تعيد الكرة كل يوم دون سؤال أو تفكير أو نظر للعلاقة بيننا وبين أي شئ حولنا، أو حتى البحث وراء السبب الذي يدفعنا إلى القيام  بنشاط معين بشكل دوري، فلا يكون لوجودنا قيمة بدون ما نعمله وبدون ما نجنيه من مال، فقيمة وجودنا تتحدد بالقيمة المادية وما يُترجم عنها في صيغة عينية ملموسة. لا وجود للعلاقات أو الارتباطات بين الإنسان وما حوله، وهو واقع الذي فرض على الإنسان منذ بداية عصر النهضة وصعود دور الآلة على الإبداع البشري، ما فرض الإحساس بالاغتراب على الإنسان المعاصر الذي فقد الصيغة الارتباطية بينه وبين ما تنتجه يداه وأصبح يعمل في مهن مفروضة عليه فقط من أجل الحصول على النقود التي ستضمن له البقاء على قيد الحياة … لكن كيف؟

هذا ما يناقشه السوري في نصه حيث يبدأ من لحظة الاحتفال بأعياد الميلاد وبداية سنة جديدة، تعزف الفرق الموسيقية في الشوارع موسيقى واحدة مراراً وتكراراً، ويمر شخص يعمل بائعاً متجولاً يحاول أن يبيع مبيداً حشرياً، ثم يسأل المشاهدين على مقاعدهم إن كان هناك باباً للخروج من هنا، مسقطاً السؤال على الخروج من هذه الحياة!

يصعد بعد ذلك إلى خشبة المسرح ليختفي في الظلام، الذي يتبدد تدريجياً ليظهر مجموعة من العاملين في مدينة للملاهي، ويقرر صاحب العمل أن من يؤدي دور الدبدوب الضاحك لن يصعد إلى المسرح مرة أخرى لأنه بكى، ولا يعبأ لتبريره موقفه بأنه بكى لأن أحد الأطفال غرس موساً في قدمه أثناء العرض، فأنت غير مصرح لك أن تتألم، فقط نفذ الدور المحدد لك من قبل “الوكيل” هذا الشخص الذي لا يدري لماذا يعمل في مهنته هذه والذي لا يعود إلى منزله ولا يستجيب لعاطفة زوجته، لقد تحول إلى ترس في الآلة التي تدور دون توقف واستسلم دون سؤال!

يأتي هذا الشاب الذي لا يدري لماذا يعمل في شخصية دبدوب إلا لأجل توفير إيجار منزله ويوفر الطعام لعائلته، أخته التي اشترى لها الكمان لأنها تحب الموسيقى، وأمه التي يوهمها بأنها تعمل ويبيع لها إنتاج يديها من ملابس في حين يشتريها هو ويلقيها في القمامة بمقر عمله كل يوم، ووالده الذي قرر أن لا يعمل بعد أن أحرق بنفسه مشروعه الخاص لأنه لم يعد يعرف ما الذي يمكن أن يفعله بعد أن حقق النجاح في العمل!

علاقات متشابكة لا تفصح إلا عن غربة نفسية داخل المجتمع الذي لا يُثمن الإنسان، فالشخص الذي يلعب دور الدبدوب الضاحك يسقط ميتاً فجأة، فلا يفكر من حوله سوى في من سيأخذ طعامه الذي خلفه وراءه؟ ولا يسرع لإسعافه الطبيب بل يتركه حتى يموت ولا يتخذ موقفاً يوزاي هول “الموت”، فهو مجرد ترس سقط وعلينا إيجاد البديل له، وهو ما يقوم به البطل فيسندوا له دور الدبدوب الضاحك، رغم أنه هو نفسه لا يجد ما يضحكه!

هناك أيضاً شخصية الفتاة المغنية والتي لا تشعر بحب البطل وإعجابه بها وتعتقد أنه مثل والدها وباقي أفراد عائلتها يضحكون من أنفها الكبير ولا يرون فيها سوى فتاة دميمة رغم صوتها الجميل، لذلك فهي لا تفكر سوى في التخلص من هذه المشكلة التي تفسد عليها حياتها ضمن مجتمع حدد مواصفات الجمال في شروط لا يمكن الخروج عليها.

البطل أو “سامسا” الحشرة، والذي لعب دوره الفنان الشاب مصطفى خطاب بقدرات تفوق أي توقعات خاصة بممثل يلعب دوراً في مسرح جامعي غير احترافي، يصل إلى مفترق طرق في حياته، حيث لم يتمكن من تحييد شخصيته الحقيقية التي تجسد إنسانيته والتي شخصها المؤلف في شخصية رسام مسقطاً عليه صفات فان جوخ الذي قطع أذنه، فيبدأ في التدهور النفسي تدريجياً إلى أن يسقط في هوة العزلة عن المجتمع من حوله ولا يتمكن من الذهاب إلى العمل أو التواصل معهم بكلام مفهوم، فهم لا يسمعون سوى صراخه وهو لا يستطيع أن يوصل لهم ما يرغب في قوله، فيتحول في نظرهم إلى حشرة ويتخلى عنه أبوه وأمه وأخته رغم كل التضحيات التي قدمها من أجلهم، وحتى حبيبته عندما تأتي لزيارته تُحقر من شأنه وتخبره أنها أتت فقط لترى شخصاُ أكثر منها دمامة، حتى تتواطأ أسرته على التخلص منه وقتله بالمبيد الحشرينظراً لنه تحول في نظرهم إلى مجرد “حشرة” مخيفة.

قسم المخرج الفضاء المسرحي إلى نصفين، نصف يجسد صالة منزل سامسا وصالة اجتماعات العمل، ونصف يجسد غرفة نوم سامسا، مع وجود فتحة في الخلفية تجسد النافذة التي يصل منها موسيقى عيد الميلاد الرتيبة المملة، مع قطع ديكور بسيطة سهل تحريكها تتكون من بعض طاولات ومقاعد خشبية، يمكن تحويلها إلى طاولة سفرة أو طاولة اجتماعات.

استخدم المخرج عمرو عفيفي فرقة موسيقية لعزف موسيقى حية للعرض، حيث لعب المؤلف دور المايسترو، كما وظف الإضاءة بشكل تقليدي في التركيز على الحدث بشخوصه المتورطة فيه، وكان الأداء التمثيلي للطلاب المشاركين متميزاً، لكن يظل مصطفى خطاب الذي لعب دور “الفتى الدبدوب” أو “الحشرة سامسا” يفوق أي أداء متعارف عليه، حيث يستخدم جميع حواسه للتعبير إضافة إلى القدرة العالية في تحريك جسده، فنحن لم نكن نشاهد ممثلاً هاوياً في مسرح جامعي، بل ممثلاً محترفاً اشتغل على أدواته التعبيرية جيداً ووظف جميع أعضاء جسده للتعبير عن الأحداث والحالات النفسية المعقدة التي يتتطلبها الدور، فالدور الذي لعبه مصطفى دوراً شديد التركيب والتعقيد ويتطلب قدرات جسدية عالية جداً، وهذا ما قام به الفتى بجدارة.

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق