شهرية ..مستقلة

دمشق والجامع الأموي .. توأمان لا ينفصلان

0

دمشق: عبير نداف

بناه الوليد بن عبد الملك..واستغرقت زخرفته وبناؤه عشر سنين

تكلفة انشاء الجامع الأموي مائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف ومائتا دينارا

الروايات التاريخية تثبت وجود ضريح يوحنا المعمدان بين أعمدة الرواق الأوسط

أربع قاعات كبيرة نسب كل واحد منها الى احد الخلفاء الراشدين

شريط من الرخام مطلي بماء الذهب..منقوش برسوم تمثل عروقا نباتية مؤلفة من  أوراق العنب وعناقيده

مصاريع ربع أبواب الجامع مصفحة بالنحاس المذهب

موارد الأوقاف جعلته أغنى مساجد العالم.. ينفقونها على رواتب العلماء والمدرسين والمؤذنين والخدم وطلاب العلم

دمشق من أقدم المدن المأهولة في العالم تحفل بالعديد من الأوابد الشاهدة على أهميتها ,فمنذ القديم لا تزال هناك من الآثار التي تعود الى عصور قديمة ذهبية تألقت فيها المدينة وازدانت  ،ولعل فترة ازدهارها كعاصمة للأمويين تبقى هي من أكثر الأوقات سطوعا في تاريخها حيث اجتمع التراث الحضاري المتراكم على ارض الشام المتمثل في التقاء حضارات الشرق بالغرب- حضارات الأمم السامية وحضارة حوض البحر المتوسط – مع المجد السياسي والتوسع في عهد الأمويين وما تبع ذلك من غنى ثقافي ومادي.

ففي مثل تلك الاجواء والظروف السياسية والاجتماعية والحضارية شيد جامع دمشق وولد الفن الأموي الذي هو حجر الأساس في الفنون الدينية الإسلامية مكتسبا قدسية خاصة.

…..

قدسية المكان

و إذا توغلنا قديما في تاريخ هذا الجامع نجد أن البقعة التي بني عليها قد ألفت حولها العديد من الروايات . لكن المسند تاريخيا انه حين أتم العرب المسلمون في العام الرابع عشر للهجرة ( م 635) تحرير دمشق من الحكم البيزنطي وقع اختيارهم على هذا المكان الذي احتله الجامع اليوم ليقيموا صلواتهم .

ولهذه البقعة قدسية خاصة عند أهالي الشام ،فقد كرست للعبادة منذ ألوف السنين وأقيمت عليها المعابد العديدة ،وأقدم ما نعرف عن هذه المعابد معبد نسب “للاله حدد” الذي أقامه اهل دمشق في العهد الآرامي وتلاه في العهد الروماني معبد نسب “للاله جوبتير” الذي ماتزال أثار منه  باقية إلى اليوم  في المسكية والنوفرة وغيرهما من الأحياء المحيطة بالجامع.

كان المعبد الحقيقي مشيدا في نفس المكان الذي أقيم عليه الجامع فيما بعد وتحول هذا المعبد – جوبتير الدمشقي – بعد انتصار المسيحية على الوثنية في القرن الرابع الميلادي الى كنيسة ثم اقتسم العرب هذا المعبد الكبير مع المسيحيين .

ويذكر المؤرخ المهبلي:” بنا المسلمون الجامع الى جانب كنيسة يوحنا حيث أقاموا مسجدهم الذي عرف بمسجد الصحابة في الجانب الشرقي من ارض المعبد لأنه لا يعقل أن يقتسم المسلمون الكنيسة ويصلون مع المسيحيين تحت سقف واحد”.

المسجد والكنيسة

إذن ،كان هناك مسجد شيده المسلمون مستقلا عن بناء الكنيسة يجمعهما سور  واحد هو سور المعبد القديم وظل هذا التجاور في العبادة قرابة سبعين عاما ، ولما كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وجد الحاجة ملحة الى إقامة جامع كبير يليق بعظمة الدولة يلائم حالة التطور التي بلغها المجتمع العربي الإسلامي حيث غدت دمشق عاصمة لأعظم دولة عربية في التاريخ في عهد الوليد ،وازداد عدد المسلمين فيها فضاق بهم المسجد الأول ولم يعد  يتسع للإعداد الكبيرة من المصلين فقرر الوليد تنفيذ مشروعه المهم ،ودخل في مفاوضات مع الرعايا المسيحيين لكي يتخلوا عن النصف الأخر للمعبد – المكان الذي عليه الكنيسة- فكان له ما أراد وهدم الكنيسة وكل ما كان داخل المعبد من منشأت رومانية وبيزنطية  ليشيد الجامع وفق مخطط جديد مبتكر يعتمد على التخطيط الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم  عند بنائه المسجد الأول في المدينة المنورة، وكان هذا المخطط يقوم على تقسيم المسجد إلى بيت للصلاة وفناء مفتوح.

عبر الوليد عن رغبته ببناء صرح فريد بقوله :إني أريد ان  ابني مسجدا لم يبن من مضى قبلي ولن يبنى من يأتي من بعدي مثله ،وبذل الكثير من الجهد والمال كي يكون جامعه آية في الإبداع والجمال فأمضى في زخرفته وبنائه قرابة عشر سنين.وهكذا ظهر دامع دمشق ثورة على البساطة والتقشف وانطلاقة جديدة في مضمار فنون العمارة والزخرفة إذ ظل المعماريون عدة قرون يستوحون منه وينسجون على منواله وبقي الجامع فتنة للناظرين يتبارى الكتاب والشعراء في وصفه وإبراز محاسنه ولكنه لم ينج من مصائب الزمان فتعرض للحرائق والزلازل أكثر من مرة خلال تاريخه ،ورغم ذلك فالجهود التي بذلت وما زالت من اجل ترميمه وإصلاح ما يهدم منه جعلته يحتفظ  بمخططه الأصلي وطابعه العام بأكثر عناصر المعمارية والزخرفة ما لم يتهيأ لبناء في مثل قدمه .

الصحن المكشوف

مخطط الجامع يؤلف مستطيلا يحتل جانبه الشمالي صحن مكشوف تحيط به اروقة مسقوفة ويحتل قسمه الجنوبي الحرم او المصلى ،وللجامع ثلاث أبواب رئيسية تصله بجهات المدينة الشرقية والغربية والشمالية ،وهناك باب رابع في الحرم يصله بالجهة الجنوبية من المدينة.

أما سور الجامع فمبني من الحجارة الكلسية مدميك كبيرة مزودة بدعائم جدارية ،وتحتل زوايا  السور الأربع أبراج مربعة الشكل استخدمت بعد الفتح منابرا للآذان بقي منها الى اليوم البرجان الجنوبيان ،وعليهما أقيمت المئذنتان الشرقية والغربية.

أما صحن الجامع فمستطيل مبلط بالحجر ،وفي وسطه توجد بحرة وكان يوجد فوقها قبة على شكل أقواس وأعمدة ،وفي الجهة الغربية قبة الخزنة وهي مضلع قائم على ثمانية عمد جميلة التيجان ،اما في الجهة الشرقية فتوجد قبة اخرى على ثمانية عمد أيضا – احدث عمرا- هي قبة زين العابدين ،ويحيط بالصحن رواق مسقوف محمول على عضائد وأعمدة تتناول كل عضادة مع عمودين ،اما الحرم فيتألف من ثلاثة أروقة موازية للقبلة يمتد بينهما صفان من الأعمدة تحمل قناطر كبيرة نصف دائرية فوقها عدد مضاعف من القناطر الصغيرة كما هو الحال في الأروقة المحيطة بالصحن ،وقد تجددت أعمدة الحرم بعد الحريق الذي حدث عام 1893 م دون تغيير في أوضاع الاروقة   أو شكل الأعمدة.

يوحنا المعمدان

يغطي الحرم سقوف سنامية الشكل (جملونات ) هي ثلاث سقوف ممتدة من الشرق إلى الغرب يقطعها في وسطها سقف المجاز المرتفع حيث لم يبق بعد الحريق شيء منها إلا ان سقوف المجاز  جددت على النمط القديم من النوع الشائع استعماله في الدور الشامية ،ويسترعى الانتباه داخل الحرم بناء صغير أنيق قائم بين أعمدة الرواق الأوسط هو ضريح النبي يحيى او القديس يوحنا المعمدان وقد أيدت الروايات التاريخية التي أثبتها المؤرخ ابن عساكر خبر العثور على قبره في هذا المكان أثناء بناء الجامع ،حيث يقول ان الوليد أمر أن يحافظ عليه ويجعل فوقه عمودا يختلف عن العمد الاخرى ليدل عليه ثم أقيم عليه في عهد لاحق ضريح من الخشب مزين بالنقوش ذهب مع الحريق الأخير فأعيد بناؤه بالرخام كما يشاهد اليوم .

يستمد الحرم نوره من نوافذ مفتوحة في جداريه الكبيرين الشمالي والجنوبي ،ففي الجدار الشمالي أربع وأربعون نافذة -اثنتان فوق كل قنطرة كبيرة –  ومثلها في الجدار الجنوبي ويعتقد ان هذه النوافذ كانت منذ عهد مبكر مزودة بشمسات من الجبص المعشق بالزجاج الملون مزخرفة باشكال بنائية وهندسية ،لكن هذه النوافذ تحطمت، وقد جدد منها بعد الحريق ست شمسيات كبيرة على نسق النوافذ القديمة التي تشاهد في المباني العثمانية العهد .

وكان للمعبد أربعة أبراج لم بيق منها حين تشييد جامع الوليد سوى البرجين الجنوبيين فاتخذا مئذنتين ثم شيدت مئذنة ثالثة الى جانب الباب الشمالي على هيئة برج مربع هي التي عرفت فيما بعد بمئذنة العروس.

أما المئذنة الشرقية التي سميت مئذنة عيسى فقد شيدت فوق برج المعبد القديم ،وقد احترقت وتهدمت أكثر من مرة  كان أخرها في زلزال عام 1759 م،ورممت في عصرنا الحديث دون اي تعديل . وأما المئذنة الغربية فهي من أجمل المآذن حيث شيدت أيضا فوق البرج المربع القديم ،وتشير الكتابات المنقوشة عليها الى تجديدها في عهد السلطان قاتيبان 893 هجري (1488)م ..ونلاحظ في مخطط الجامع أربع قاعات كبيرة أطلق عليها قديما المشاهد و نسب كل واحد منها الى احد الخلفاء الراشدين المشهد الجنوبي الشرقي مشهد أبو بكر والمشهد الجنوبي الغربي مشهد  عمر والشمال الغربي مشهد عثمان والشمالي الشرقي مشهد علي ثم دعي مشهد الحين و تغيرت اسماء هذه المشاهد خلال العصور التاريخية واستخدمت في أغراض شتى كالتدريس والاجتماعات والصلاة وخزن الكتب.

زخارف أموية

الزخارف الأموية التي تزين الجامع تتألف من عنصرين رئيسيين هما الفسيفساء والرخام ..وكانت الفسيفساء في الأصل تغطي الأقسام العليا من الجدران ،أما الرخام فقد كان من النوع المجزع – نسبة إلى الخطوط الموجودة على جذع الشجر – وقد زال الرخام بسبب الزلازل والحرائق العديدة ،وتحدثت كثير من الروايات التاريخية عن كرمة عظيمة من الذهب كانت تحيط بجدران الحرم اسفل الفسيفساء يعتقد بان المقصود بهذه الكرمة شريط من الرخام المنقوش برسوم تمثل عروقا نباتية مؤلفة من  أوراق العنب وعناقيده ،وكان الشريط الرخامي مطليا بماء الذهب وبقيت هذه الكرمة حتى حد ث الحريق الأخير أما ما تبقى من الرخام فهي من عهود لاحقة  او حديثة الصنع والترخيم المشاهد في جدران الحرم والمحراب والمنبر فهو حديث العهد يرجع إلى ما بعد الحريق الأخير.

أتقنت صناع المحراب فجاء ت تحفة من تحف الفن الإسلامي ،اما الفسيفساء فقد زال أكثرها وما بقي يعتبر ثروة فنية لا تقدر بثمن ونشاهد في رواق الصحن الغربي ،ويتخللها أجزاء أكملت حديثا أحيطت بخط احمر لتمييزها عن الاصل القديم ،وتتميز الفسيفساء الأموية بان مواضيعها خالية من الصور ،وهي قاصرة على مشاهد الطبيعة وكان يتخلل الفسيفساء الأموية كتابات وآيات قرآنية لا سيما في الحرم تحدث عنها المؤرخون القدماء ،وكانت الزينة والزخرفة تغطي كل زاوية وكل عنصر من عناصر الجامع الاموي،فمصاريع ربع أبواب الجامع مصفحة بالنحاس المذهب –هكذا وصفها المقدسي في القرن الرابع الهجري- لكن طرأ عليها تجديد وترميم ،والموجود منها الآن يرجع إلى العهد المملوكي .

أغنى مساجد العالم

ويتنسب  الجامع الأموي الى الفنون المعمارية الشامية التي ازدهرت على يد الأمويين الذين تم في عهدهم إنشاء العديد من  الأعمال العمرانية من مدن وقصور ومساجد، وإذا تأملنا العناصر المعمارية والزخرفية للجامع لوجدنا ان  الانسجام محقق فيما بينها بما يتجانس مع روح العصر ،وبذلك ظهر الفن الأموي بخصائصه وأصالته في بناء الجامع .

كان للجامع أوقاف تجمعت خلال العصور وجعلته اغني مساجد العالم,وكانت موارد الأوقاف تصرف في سبل شتى منها رواتب العلماء والمدرسين والمؤذنين والخدم وطلاب العلم ومنها ما يصرف على البخور والطيب والشموع ،فلم تكن وظيفة الجامع في العهود الماضية تقتصر على شؤون العبادة وحدها بل كان الجامع حافلا بالنشاطات السياسية والدراسة في شتى إرجائه وأنشئت حوله عشرات المدارس والمكتبات حتى أصبح يؤلف معها وقتئذ مدينة جامعية حقيقية .

وأخيرا.. فقد ذكر المؤرخون أن الوليد انفق في بناء الجامع مائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف ومائتا دينار ،وقيل أن الخليفة الورع عمر بن عبد العزيز لم يرض عن الإسراف والترف الذين حفل بهما الجامع وفكر  في نزع بعض ما في الجامع من نفائس وذهب ورده إلى بيت المال لكن حدث ان جاء وفد من الدولة البيزنطية إلى دمشق فأستأذن في مشاهدة الجامع وقيل ان رئيس الوفد سقط مغشيا عليه خلال تأمله روائع البناء فلما أفاق سئل عما أصابه فأجاب بما معناه : إننا أهل رومية نتحدث إن بقاء العرب في هذه البلاد قليل وعندما شاهدنا هذا البنيان أيقنا انهم باقون فيها ولا رجعة لبيزنطة إليها بعد اليوم …فلما اخبر الخليفة عمر بذلك قال ما ارى مسجد دمشق إلا غيظا على الأعداء فترك بكل ما كان قد هم فيه .وبقي الجامع الأموي هذا بكل روعته وبهائه إلى يومنا .

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق