شهرية ..مستقلة

أوجاع العرب .. وكوابيس المستقبل 2

0

أعد الملف: العزب الطيب الطاهر

الدكتور عبد الحسين شعبان:

نحتاج صيغة وحدوية  وتكاملية جديدة بعيدة عن الفوقية والإكراه

أحذر من تحول المنطقة الى كانتونات وفيدراليات ودوقيات إن لم يغير العرب من معطيات المرحلة الراهنة

نحتاج الى إرادة سياسية قوية للبدء فى ترميم العلاقات المتصدعة وإيجاد تفاهمات وحلول للمشكلات القائمة

أطالب بإعلاء مرجعية الدولة وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والعرقية

عدم حل القضية الفلسطينية بصورة عادلة يعنى استمرار حالة الاحتراب وتعطيل خطط التنمية والإصلاح والديمقراطية

النخب السياسية تتحمل مسئولية إنجاز عملية الانتقال والتحول ورفض اللجوء الى السلاح وسيلة لحل الخلافات

الإبقاء على الجامعة العربية ضرورة وإصلاحها مرهون بإصلاح الدول الأعضاء

تآكل فكرة الدولة الوطنية بدأ مع الاحتلال الأمريكى للعراق ثم تمدد مع بروز الصراعات والنزاعات المسلحة

وفق منظورالدكتور عبد الحسين شعبان – المفكر العربى المقيم فى بيروت – فإن التحديات والمخاطر التى تواجه العرب فى المرحلة الراهنة  لم تتغيرمنذ نهاية القرن التاسع عشر ،وإن  اكتسبت المزيد من التعقيد والتشابك خلال السنوات الأخيرة ،ويرى أنه لن يكون بمقدورهم التصدى إلا من خلال  الوحدة العربية في مواجهة التجزئة  ،والتى تأخذ شكل  وحدة أو اتحاد أو أي صيغة لعمل عربي مشترك على أساس ديمقراطية الأسلوب واجتماعي المضمون ، وليس فوقياً وإكراهياً، والتنمية المستدامة في مواجهة التخلّف، والاستقلال الاقتصادي في مواجهة التبعيّة.

..والى المزيد من رؤى الدكتور شعبان فى الحوار التالى معه :

– ما هي أهم التحديات والمخاطر التي تواجه العرب في المرحلة الراهنة ؟وهل عجزوا عن التعاطي معها بكفاءة تحد من تأثيراتها وتداعياتها السلبية ؟ وما هي أسباب العجز أو الفشل ؟

 *لا زالت التحدّيات والمخاطر التي تواجه العرب في المرحلة الراهنة هي ذاتها التي واجهتهم منذ أواخر القرن التاسع عشر ونهاية عهد الدولة العثمانية ، لكنها أصبحت أكثر تعقيداً وتشابكاً، سواء على المستوى الوطني أم على المستوى العربي والإقليمي.

وإذا كانت فكرة الاستقلال والتحرّر والوحدة القومية  قد ارتبطت بالدعوة إلى الإصلاح والنهضة، وإن كانت بشكل جنيني، فإنها اليوم أكثر تركيباً وعمقاً بسبب التحدّيات الخارجية والداخلية، تلك التي لعبت دوراً أساسياً في إخفاقهم من استكمال مستلزمات الانتقال إلى طور جديد  بعد انحلال الدولة العثمانية وشكّلت كوابحاً أمام تنميتهم وتقدمهم. فالأسباب الخارجية تكمن في محاولة القوى الاستعمارية كبح جماح حركة التحرّر الوطني العربي بإرهاصاتها المبكّرة، والتي بدأت مع المشروع النهضوي الأول الذي قاده جمال الدين الأفغاني  ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي والشيخ حسين النائيني وخير الدين التونسي ورشيد رضا وانطوان فرح وشبلي شميّل وصولاً إلى علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم.

الهيمنة على المنطقة  

      وقد وجدت المساعي الاستعمارية القديمة الجديدة فرصتها  لفرض الهيمنة على المنطقة وسلب خيراتها ومواردها  ارتباطاً مع الحرب العالمية الأولى 1914-1919 م وتفكّك “الدولة العثمانية” التي كانت قد بلغت من الضعف والهزال   درجة أخذت تُدعى بـ ” الرجل المريض”، حيث كانت تلك المرحلة الأولى لتنفيذ المخطط الامبريالي   الذي ما زال مستمراً منذ أكثر من قرن من الزمان  ، وتقع في القلب منه فلسطين التي شكّلت رأس حربة مدبّبة وحادة في المشروع التدميري للمنطقة العربية .

      وكان لاتفاقية سايكس – بيكو السرّية العام 1916 م بين بريطانيا وفرنسا – والتي انضمت إليها روسيا القيصرية، لكنها انسحبت منها بعد الثورة البلشفية العام 1917م – الأثر الكبير في وضع اللمسات النهائية لتقسيم المنطقة ، خصوصاً بعد الخديعة التي تعرّض لها الشريف حسين وتبخّر الوعود التي قطعها له الحلفاء بمنح الشعب العربي الاستقلال بعد إعلان الثورة والتخلّص من التبعية العثمانية، وكانت الحلقة الثانية من المشروع الامبريالي – الصهيوني منح بريطانيا لليهود وعد بلفور القاضي بإنشاء ” وطن قومي” لهم في فلسطين  العام 1917م، الأمر الذي امتد تأثيره وتفاعله بمراحله المتقدّمة لاحقاً، لاسيّما بعد التمكّن من إنشاء دولة “إسرائيل” في 15 أيار (مايو) 1948 م  إثر صدور قرار الجمعية العامة 181 في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1947 م.

ومنذ ذلك التاريخ شكلت “إسرائيل” بؤرة عدوان توسّعي إجلائي مستديم حيث كان لها الدور الأخطر في تعطيل التنمية وعرقلة  إمكانية تحقيق المشروع النهضوي العربي الحديث .

ويمثّل هذا المشروع بأركانه الستة خلاصة خبرة ومراجعة فكرية واستفادة من الأخطاء التي صاحبتها .والذي تبلور طوال ربع القرن الماضي بربطه بين الأهداف على نحو عضوي وعدم تجزئتها أو الافتئات عليها، أو تقديم جزء وإهمال أو تأجيل آخر سواء بمقايضة أو بانتقائية قادت إلى التشوّه والاستبداد .

أركان مشروع النهضة

أما أركان المشروع النهضوي العربي الجديد فهي: الوحدة العربية في مواجهة التجزئة – وهي وحدة أو اتحاد أو أي عمل عربي مشترك على أساس ديمقراطية الأسلوب واجتماعي المضمون وليس فوقياً وإكراهياً- والتنمية المستدامة في مواجهة التخلّف، والاستقلال الاقتصادي في مواجهة التبعيّة ،والاستقلال السياسي والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال، والديمقراطية في مواجهة الاستبداد والتسلّط، والتجدّد الحضاري لمواكبة التطور العالمي .

      وتتداخل الأسباب الخارجية مع الأسباب الداخلية في إطار نظرة شاملة للمشروع النهضوي  الحضاري العربي ، والذي كان غياب مثل هذا التفاعل بين أركانه أو إهمال بعضها عاملاً من عوامل الضعف والتشتّت والاستتباع التي عانى منها العالم العربي،  فعلى الرغم من حصول البلدان العربية على استقلالها، فإنها لم تتمكّن من بناء وحدتها القومية، مع أن  قيام جامعة الدول العربية في 22 آذار (مارس) 1945 م كمنظمة إقليمية ، كان يمكن أن يكون نواة أولية لذلك، لكنّ ميثاقها وضع عقبات وقيود أمام الارتقاء إلى مثل هذا الطموح بإقامة كيان عربي موحّد، بل أنها جاءت تكريساً لما هو موجود وتأكيداً للأمر الواقع، فقد ازدادت العلاقات العربية- العربية احتداماً لدرجة الاحتراب خلال فترة ما سمّي بالمدّ القومي، ووصلت العداوة والبغضاء بين الأنظمة العربية إلى حدود كبيرة.

      وفشلت التجارب الوحدوية العديدة جميعها، لأنها لم تقم على دراسة كافية ،ولم تأخذ بنظر الاعتبار التدرّج والتراكم ودرجة تطور كل بلد عربي، فضلاً عن الاندفاعات العاطفية التي كانت وراء الدعوات التي صاحبتها والتي اصطدمت بالواقع لاحقاً، إضافة إلى تنازع المصالح القطرية والسلطوية الأنانية الضيقة وابتعادها جميعها عن الديمقراطية دون استثناء ومنها : الوحدة المصرية – السورية التي أقيمت في 22 شباط (فبراير) 1958 م ،والاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن  في 14 شباط (فبراير) 1958م ، ومحاولات الوحدة الثلاثية: المصرية، السورية ، العراقية وميثاق 17 نيسان (أبريل) العام 1963م،والمحاولات العديدة التي شارك في الدعوة إليها العقيد معمّر القذافي بين كل من مصر  وسوريا وليبيا والسودان وغيرها منذ  العام 1971 ،وتجربة  الوحدة العراقية – السورية العام 1978-1979م، والميثاق القومي الذي طرحه العراق  في شباط (فبراير) 1980م، ومجلس التعاون العربي الذي تأسس في العام 1989 م بين العراق والأردن ومصر واليمن والذي انحلّ عملياً إثر غزو الكويت 1990 م الذي أدى إلى تبديد الحدّ الأدنى من ” التضامن العربي”. 

      وعلى الرغم من استمرار الاتحاد المغاربي الذي تأسس في 17 شباط (فبراير) 1989م، إلّا أن ثمة  عثرات وتحديات تواجهه، من أبرزها قضية الصحراء المغربية (البوليساريو)، وخصوصاً العلاقات التي ظلّت مقطوعة بين دولتين عضوين هما المغرب والجزائر

      وتأسّس مجلس التعاون الخليجي في 25 أيار (مايو ) 1981م، وقد واجه مؤخراً مصاعب وإشكالات عديدة جعلت منجزه العملي محدوداً على الرغم من مضي نحو أربعة عقود على تأسيسه، ولاسيّما بعد اندلاع الأزمة بين ثلاث دول من أعضائه مع قطر وهي : المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ،والتي انضمّت إليها مصر .

 من المسئول ؟

 – من المسئول عن الوضعية التى  وجد العرب أنفسهم فيها  خلال السنوات السبع المنصرمة ؟ هل هى ثورات الربيع العربى  ؟وهل أخفقت هذه الثورات أو الانتفاضات فى إحداث إختراق فى هذه الوضعية باتجاه التحديث وامتلاك مشروع نهوض حضارى حقيقى؟ أم أن هذه الثورات كانت عبارة عن “مؤامرة خارجية” لفرض أجندات معينة  فى مقدمتها ما يسمى بالإسلام المعتدل لتبوء مقاليد السلطة وفق المنظور الأمريكى خصوصا ؟

 * النظام الأمني العربي معطل وليس مؤجلاً، وذلك لفقدان إرادة سياسية عربية موحّدة لإنجازه على الرغم من الحاجة الكبيرة إليه، بل إن التضامن العربي غير متوفر بحدّه الأدنى منذ عملية غزو الكويت العام 1990 م ،ومن ثم حرب قوات التحالف ضد العراق العام 1991م وفرض حصار جائر عليه وفيما بعد احتلاله العام 2003 م.

      وإذا كانت القضية الفلسطينية  تمثل جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي، فإنها اليوم لم تكن كما كانت في السابق  محط إجماع أو عمل موحد من جانب البلدان العربية، وكان آخر توجه هو المبادرة العربية للقمة المنعقدة في بيروت العام 2002م، ثم بدأت المواقف بالتباعد ، لاسيّما وإن مشروع اتفاقيات أوسلو ومعاهدات السلام العربية- الإسرائيلية، لم تحقق المرجو منها حيث وصلت إلى طريق مسدود وتتمادى إسرائيل أكثر فأكثر حين تعلن بتشريع خاص أنها دولة يهودية نقية أو خالصة، وهذا سيعني طرد ما بقي من العرب في فلسطين الذين يشكّلون 20% من سكانها!

لعلّ الأمر يحتاج إلى تحديد الأوليات وبناء استراتيجية متدرّجة وطويلة الأمد  تكون موحّدة  يسهم فيها كل بلد عربي بما يتمكن من دعم مادّي ومعنوي وبشري، لأن غياب الأمن العربي المشترك يعني تمدد القوى الإقليمية من جهته، واستمرار ” اسرائيل” في التنكر للحقوق العربية والفلسطينية، وخصوصاً لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس ،ولاشك أنّ غياب مثل هذا المشروع هو الذي شجّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب  فى 15  مايو الماضى لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو القرار المؤجل منذ عهد الرئيس بيل كلينتون والمخالف لما يسمّى بالشرعية الدولية ولقواعد القانون الدولي .  

      إن عدم حلّ القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يلبي الحدّ الأدنى من حقوق الشعب العربي الفلسطيني يعني استمرار حالة الاحتراب وتعطيل خطط التنمية والإصلاح والديمقراطية ، إذْ لا يمكن تحقيق ذلك دون وجود سلام عادل ووطيد، وحتى لو تحقّق جزء من هذه الحقوق على صعيد قطري، فإنها ستبقى مهدّدة باستمرار بفعل وجود “إسرائيل” دولة عدوانية في المنطقة خارجة على القانون الدولي .

الإنقضاض الإقليمى

  –  هل ترى أن  المنطقة العربية تواجه بالفعل مايسميه البعض فراغا استراتيجيا  ما دفع قوى مختلفة  للإنقضاض عليه سواء  من داخل البلدان العربية أو من محيطها أو من العالم الأوسع  لتوظيف هذا الفراغ واستغلاله لصالحها ؟

 * تعاني المنطقة العربية من تراجعات خطرة، ولاسيّما على صعيد التعاطي مع فكرة الدولة، تلك التي بدأت تتشكل في أعقاب انهيار مرحلة الدولة العثمانية وما بعد الاستقلالات في الخمسينات ،إذْ أنها لم تترسّخ حتى الآن في العديد من البلدان العربية، وعدنا في أحيان كثيرة إلى مرحلة ما قبل الدولة، لاسيّما بالحديث عن المرجعيات الدينية والمذهبية والتشكيلات العشائرية والجهوية والحزبوية الضيقة على حساب مرجعية الدولة العليا، التي ينبغي أن تخضع لها جميع المرجعيات ، وبحكم القانون .

       مفهوم الفراغ الاستراتيجي في الأمن القومي العربي دفع الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص لطرح ” مشروع النقطة الرابعة” الذي جاء في خطاب للرئيس هاري ترومان في أول خطاب له في 20 يناير (كانون الثاني) 1949 م ،وأقرّ العمل به في العام 1950م، وتعزّز خلال أطروحات جون فوستر دلاس التي توّجت بمشروع أيزنهاور ونظريته لإملاء الفراغ العام 1957م، حين وصف منطقة الشرق الأوسط بأنها ” أقيَّم قطعة عقار في العالم” وذلك في مذكراته .

     حالياً تعاني المنطقة العربية من احترابات وصراعات وتآكل لفكرة الدولة في العديد من البلدان ، ولاسيّما تلك التي شهدت تغييرات انقلابية كبرى مثل العراق بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003م، حيث يعاني من ظواهر الطائفية والإثنية التي ترسّخت في بنية الدولة من خلال ما سمّي بالمكوّنات التي جاء الدستور على ذكرها 8 مرّات، مثلما يعاني من وجود ميليشيات خارج نطاق الدولة، وحتى حين تنضوي تحت لوائها لا تأتمر بأمرها بالكامل، ويعاني من العنف والإرهاب والفساد المالي والإداري، الأمر الذي يعيد المجتمع إلى تشكيلات ما قبل الدولة مثل العشائرية والجهوية والمناطقية والمرجعيات الدينية والطائفية وغيرها، وهذه كلّها تحول دون إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة المتساوية والهوّية الجامعة، ومثل هذه العودة لمرحلة ما قبل الدولة اتخذت أشكالاً مختلفة في اليمن وليبيا وسوريا حيث الاحترابات والتداخلات الخارجية والداخلية على أشدها وانحدرت هيبة الدولة إلى الحضيض، خصوصاً بالاحتكام الى السلاح وانتشار المسلحين وشيوع ظواهر العنف والإرهاب .

      ولعلّ مثل هذا الوضع يشجع القوى الدولية والإقليمية على التدخل في شئون المنطقة العربية، سواء من محيطها الإقليمي حيث تلعب إيران وتركيا دوراً كبيراً ومؤثراً على هذا الصعيد ،أم من نفوذها الدولي وخصوصاً علاقتها مع قوى محلية، ولاسيّما أحزاب الإسلام السياسي .

      أما القوى الدولية فهي تريد تحقيق مصالحها، سواء تلك التي تعرضت في الماضي إلى الضرر من أجل تعويضها أم لإدامة هيمنتها وبسط نفوذها الجديد، ولذلك سعت إلى توظيف هذا الفراغ واستغلاله من خلال الهيمنة على الجوار أو بيع السلاح أو جعل اقتصادياتها تابعة للقوى الكبرى، ولاسيّما حين تدخل ضمن سياسة المحاور ،ويمكن ملاحظة إن اندلاع الصراع في سوريا جعلها عرضة للتداخلات الإقليمية : التركية والإيرانية والدولية ولاسيّما من جانب الولايات المتحدة وروسيا، ناهيك عن قوى الإرهاب الدولي وخصوصاً داعش وأخواتها التي لا زالت رغم هزيمتها العسكرية في العراق تحتاج إلى عمل طويل الأمد فكري وسياسي وثقافي واجتماعي وتربوي وديني لتحقيق هزيمتها النهائية.

الحلم المؤجل

  – هل صحيح أن النظام الأمني العربي ما زال حلماً مؤجلاً برغم أن الحاجة تشتد إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى ؟

 * الانتقال العربي من حال إلى حال، أي من التأخر والصراع والتشظي كما جاء في السؤال إلى التقدم والسلام والوحدة يحتاج إلى فعل حقيقي ومثابر وطويل الأمد، كي لا يبقى العرب أرقاماً متناثرة ومتفرقة وغير مؤثرة في المعادلة الإقليمية والدولية، ناهيك عن ارتهان مستقبلهم بقوى كبرى : اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً.

     الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية أولاً ،وإلى البدء الجاد لترميم العلاقات المتصدّعة ،وهذا يحتاج إلى تفاهمات وحلول للمشاكل القائمة بين البلدان العربية، كما يحتاج إلى إعلاء مرجعية الدولة وجعلها فوق جميع المرجعيات الدينية والطائفية والإثنية، وخصوصاً بالمواطنة التي تقوم على إشاعة الحريات وتحقيق المساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية ولو بحدّها الأدنى ،وكذلك بالشراكة والمشاركة وعدم التمييز، وتلك مستلزمات داخلية أساسية تحصن الدار والجار وترفع من شأن المشترك الجامع وهو العروبة الحيوية والفاعلة والحضارية، ويحتاج الأمر كذلك إلى المزيد من الحريات، خصوصاً حرية التعبير وحرية التنظيم وحرية الاعتقاد والحق في المشاركة والديمقراطية وتداولية السلطة سلمياً وحق المحكوم في تغيير الحاكم بالوسائل الديمقراطية وبصندوق الاقتراع ،وإلى سن قوانين تستجيب لذلك ولروح العصر .

مقاربات سياسية

  – فى ضوء  كل هذه المعطيات وما تواجهه المنطقة من تحديات ومخاطر وإخفاقات هل ثمة تصور لديك لمستقبل العرب على كافة الصعد ؟هل هم قادرون على إحداث مقاربات سياسية واستراتيجية وأمنية واقتصادية واجتماعية بوسعها  أن تنقلهم من حالة التأخر والصراع والتشطى إلى دائرة الفعل والبقاء كرقم فى المعادلة الإقليمية والدولية ،فضلا عن التأثير فى واقعهم الذى أثبتت وقائع السنوات الأخيرة أنه مرهون بقوى إقليمية وخارجية بينما  يبدو العرب  خارج السياق ؟ ما هو الدور المطلوب من النخب السياسية الحاكمة والشعوب ومنظمات المجتمع المدنى بالذات فيما يتعلق بإدارة ما يطلق عليه بالحكم الرشيد المطلوب بالحاح للمنطقة العربية ؟وفى رأيك ما هى محددات هذا  الحكم الرشيد وهل هى سياسة فقط أم أنه ينبغى أن تمتد الى كل الجوانب بالذات على صعيد الاقتصاد والعدالة الاجتماعية ؟

 *النخب الحاكمة وغير الحاكمة، في السلطة وخارجها تتحمل مسئولية مهمة على هذا الصعيد، سواء كانت سياسية أم ثقافية أم اجتماعية أم اقتصادية ، ويقع على عاتقها – وخصوصاً وأنها تمثل الطبقة الوسطى-  إنجاز عملية الانتقال والتحوّل، ولاسيّما نبذ العنف وعدم استخدام السلاح وسيلة لحلّ الخلافات ،واللجوء إلى الحوار والتفاهم للتوصل إلى حلول مرضية لجميع الأطراف .

      ويقع على عاتق منظمات المجتمع المدني مسئولية الرصد والمراقبة والنقد، وذلك في إطار المشاركة في تحمّل المسؤولية، وعليها أن تتحوّل إلى قوة اقتراح للقوانين والأنظمة واللوائح، وتتقدّم إلى الحكومات باعتبارها شريكةً ومكمّلةً لها سواء باتخاذ القرار أم في تنفيذه .

      كما عليها أن تضع مسافة بينها وبين العمل السياسي والصراع الآيديولوجي، وتتمتع باستقلالية حقيقية، بحيث لا تنحاز إلى المعارضات ولا تكون جزءًا من السلطات، إنما تتعامل بموضوعية في كل ما يتعلق بالحقوق والحرّيات والدفاع عن المصالح العامة والعليا ومصالح أعضائها ومنتسبيها، كما عليها ألاّ تنخرط في المشاريع الدولية للقوى والمؤسسات الخارجية  تحت ضغط الحاجة إلى التمويل  فتصبح جزءًا من أجنداتها، وبالتالي يمكن التأثير عليها وتضيع هويتها، مثلما على الحكومات الترخيص لها للعمل القانوني والشرعي وتقديم الدعم والمساعدة المادية والمعنوية لأداء مهمتها لأنها جزء أساسي وركن فاعل لا يمكن للدولة أن تحقق أهدافها بدونها .

الأرض الصلبة

 –  الى أى مدى تعتقد أن الدولة الوطنية العربية تواجه خطر التفكيك والتقسيم على أسس عرقية ومذهبية ودينية  فى ضوء خبرة ما جرى ومازال يجرى فى بعض الأقطار العربية، وكيف يمكن حماية هذه الدولة  لتكون أرضا صلبة لتوفير الحد  الأدنى من متطلبات ومقومات أى مقاربة قومية محتملة ؟

  * ليس من باب نظرية المؤامرة القول إن هناك حياكة لمستقبل المنطقة بدأت منذ عقود من الزمان، لعلّ أبرز وأشدّ ملامحها خطورة هو قيام إسرائيل في 15 مايو العام 1948 م ،وذلك بعد اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور، حيث تم البدء باحتلال الأرض واحتلال العمل واحتلال السوق تمهيداً للاحتلال الفعلي والاستمرار في ذلك باحتلال كامل فلسطين بعد عدوان 5    يونيو1967 م والتوسع في الأراضي العربية، ولا تزال الضفة الغربية وقطاع غزة تحت هيمنة الاحتلال وكذلك الجولان السورية وجزء من الأراضي اللبنانية .

      لكن الخطر الآخر أو الوجه الثاني لعملية التفتيت والتقسيم الخارجية، التي راجت منذ مشروع برنارد لويس في العام 1979 م ومشروع ايجال ألون العام 1982م، هو الاحتراب الداخلي بسبب سياسات الاستبداد وعدم احترام حقوق الإنسان وغياب الحوار والاعتراف بالآخر وعدم الإقرار بالتنوّع والتعددية، وصعود الهوّيات الفرعية بسبب الإجحاف الذي لحقها، والاضطهاد الذي تعرضت له ونهج الاستعلاء والفوقية والإقصاء والتهميش، ومن جهة أخرى ردود الفعل وضيق الأفق والانعزالية التي صاحبتها .

      وباختصار.. فإن غياب أو شح الحرّيات وعدم اعتماد مبادئ المواطنة الكاملة والمساواة التامة وسياسات التمييز، يضاف إليها أوضاع الفقر والتخلف والأمية، دفع العديد من بلدان المنطقة إلى الاحتراب الداخلي، خصوصاً حين تخلّت أو ضعفت الدولة في تلبية المهمات الأساسية من حماية أرواح وممتلكات المواطنين وحماية الأمن والنظام العام للجميع ،وفي نوع من المساواة أمام القانون، وقد وفّر ذلك أرضية للتفتت الذي إذا ما استمر ولاسيّما في أوضاع الانقسامات الداخلية واستهداف فئات واسعة من السكان لأسباب دينية (مسيحيين ، إيزيديين، صابئة…) أو إثنية أكراد ، تركمان،  وأمازيغ ومجموعات ثقافية أخرى أو عكسية  مسلمون: شيعة وسنّة، وعرب باعتبارهم حكام…، فإن النتائج ستكون وخيمة، حيث يمكن أن تتحوّل المنطقة إلى كانتونات ودوقيات وفيدراليات لا يجمعها جامع .

مستقبل الجامعة العربية

 – أى مستقبل ينتظر الجامعة العربية باعتبارها تمثل الإطار الجماعى للنظام الإقليمى العربى ؟

 *لا يمكن إصلاح أوضاع جامعة الدول العربية إذا لم تصلح أوضاع البلاد العربية وأنظمة الحكم فيها ،وجامعة الدول العربية وأنظمة الحكم السياسية تعاني من أزمة، الأمر الذي يتطلب ما يلى :

  1-الإقرار بوجود الأزمة، ومن ثم البحث في إيجاد الحلول والمعالجات الضرورية لها .

          2-الابقاء على جامعة الدول العربية والعمل على إصلاح مؤسساتها ارتباطاً مع إصلاح الأنظمة العربية .

          3-مراجعة ميثاق الجامعة لتكييفه بحيث يصبح صالحاً للإنسجام مع التطورات الدولية، وبخاصة في الفقه الدولي والقواعد العامة للقانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي .

  4- إجراء إصلاحات هيكيلية في أجهزة الجامعة على الصعيدين القانوني والإداري ،وتعديل نظام الموظف العمومي الإقليمي بحيث يكون ممثلاً للمؤسسة (الجامعة) وليس لبلده.

          5- الاهتمام بمؤسسات المجتمع المدني لتكون جزءًا لا يتجزأ من مشاركة الجامعة في اتخاذ القرار وتنفيذه في المجالات ذات العلاقة بحيث تكون عنصر رقابة ورصد ومساءلة ومساعدة لهيئات الجامعة، ولاسيما فيما يتعلق بالحريات والمرأة وحقوق الإنسان والثقافة والفن والأدب والاتصالات والرياضة وغيرها .

        وقد أشرت في كتابي ” جامعة الدول العربية والمجتمع المدني- الإصلاح والنبرة الخافتة” (العام 2004م) إلى أن إنشاء الجامعة كان حدثاً بالغ الأهمية للنظام العربي الإقليمي على الرغم من أن ميثاقها اتسم بالبساطة الشديدة، وقد حرص الآباء المؤسسون -على حد تعبير  الدبلوماسى العربى الصديق ناصيف حتي -على تأكيد مفهوم السيادة والتنسيق ورفض التدخل بالشئون الداخلية، وإذا كانت الخبرة قليلة في ميدان العمل المشترك، ولاسيّما المؤسسي وإن الدولة الوطنية في مرحلة التأسيس، فإن هذه الخبرة أخذت تتوسع بإنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية ومعاهدة وبرنامج الدفاع العربي والتعاون المشترك العام 1950م، ومع كل ذلك ولأسباب شرحناها في أسئلة أخرى أخفقت الجامعة مثلما أخفق النظام العربي في حل النزاعات العربية- العربية ،ولم يتم التوصل إلى حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية .

      وهكذا تولّدت آراء مختلفة في النظر لمستقبلها، حيث يقول الرأي الأول : إن جامعة الدول العربية شاخت وانتهى دورها ولم يعد بالإمكان إصلاحها والأجدر عدم الرهان على كيان لم يعد صالحاً، ويحمل مثل هذا الرأي أوساطاً شعبية بسبب حالة الإحباط والقنوط ،أما الرأي الثاني  ,فيراهن على المجتمع المدني الموازي والقوى والأحزاب الشعبية للممارسة الضغط الشعبي الذي يمكن أن يعيد إلى النظام العربي الرسمي نوعاً من الجدية والمسؤولية والتماسك بهدف الإصلاح , لكن مثل هذا الرأي يحتاج إلى إصلاح مؤسسات المجتمع المدني ذاتها , وكذلك الأحزاب والقوى السياسية، التي لم تستطع أن تبلور رأياً جامعاً بشأن الإصلاح، ناهيك عن الاحترابات فيما بينها ونقاط الضعف العديدة التي تعاني منها .       ولكننا نقول إن غياب كيان مؤسسي عربي جامع على الرغم من ضعفه ونواقصه وثغراته سيؤدي إلى نوع من الفراغ، ناهيك عن عدم وجود بدائل جاهزة لتبادل الرأي والحوار والتعاون في الأنشطة المشتركة وإن كانت بحدّها الأدنى، وخصوصاً على صعيد الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والتربية والصحة والمواصلات والبيئة وغيرها، الأمر الذي يحتاج إلى جهود مشتركة في كل بلد عربي وعلى مستوى الجامعة لإصلاح الحال وتحديث أسس التعاون والمشترك به .

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق