شهرية ..مستقلة

لا شفيقة شفيقة.. ولا متولى متولى!!

0

بخيتة ” شفيقة ” مريضة عقلياً وبسبب القهر هربت إلى بيوت البغاء؟

متولى اسمه “رمضان” ..كان خفيراً فى بورسعيد..بحث عن أخته ليقتلها فى مظاهرة علنية !

ضغط على أعصابه حتى فقد السمع نهائيا هرباً من ألسنة الناس؟!

  “شفيقة ومتولى” أشهر قصة دامية فى صعيد مصر، ومن أجمل المواويل الحزينة الغارقة في الحزن لأنها تصف الفارس عندما تضطره الظروف لقتل أعز الناس .

موال جرىء تتردد أصداؤه فى كل جنوب مصر ومؤثر إلى أبعد الحدود، ويكفى أن تذكر اسم شفيقة عند مرور القطار على مركز جرجا بسوهاج الواقعة على بعد 500 كيلومتر جنوب القاهرة لتنقلب السيرة إلى معركة دامية .

  فى “شفيقة ومتولى” الوقائع الحقيقية تختلف عن الموال الشعبى إلى أبعد الحدود، ومع أن الشاعر الشعبى اختار شخصيات الموال غارقة فى الدموع والتراجيديا ليصل إلى قمة المأساة بمصرع شفيقة بسكين شقيقها وتمزيق جثتها وإلقائها فى الشارع على المتفرجين من البالكونة فى بيت الدعارة، فإن مرارة الحياة كتبت من قصة متولى الحقيقى أحزان من يتأملها يدرك أنها أشد قسوة من كل أنواع الخيال.

دموع الرجال

فى مطلع الثلاثينات من القرن الماضى نعى صوت الشاعر الشعبى فى الصعيد متولى وهو يردد قصة صراع الإنسان مع القدر المحتوم.

فى هذا التوقيت خرج من بوابة السجن صعيدي يدعى رمضان السيد جودة . قضى ثلاثة أعوام وراء القضبان ولم يلفت نظر الكثيرين.

عاد إلى قريته محزونا وفوجىء بأن جريمته على كل لسان وتتردد تفاصيلها في موّال ، وبدأ يستمع إلى همسات الآخرين المسمومة ويلتقط إشاراتهم الماكرة، وشعر بكراهية الناس وحاول أن يحمى نفسه بالامتناع عن سماع أصواتهم التى تطارده وظل يضغط على أعصابه بإرادة حديدية إلى أن فقد حاسة السمع إلى الأبد .

  الخارج من السجن هو: متولى الجرجاوى قاتل شفيقة وبطل الموال الشهير، والحقيقة أن المسافة بين الرجلين: فى السيرة الشعبية وفى الحقيقة، شاسعة إلى أبعد الحدود وإن كان الخيال قد لعب دورا فى تحويل القصة إلى ملحمة شعبية.

يقول الموال الشعبى إن متولى كان عريفاً فى الجيش شجاعاً، عادلاً ومشهوراً بالرجولة وفى أثناء غيابه وقعت أخته شفيقة فى غرام من أغراها بالهروب معه للزواج.

وعندما عاد متولى فى إحدى الأجازات سأل عن غيابها فاخترع والده قصة لموتها واصطحبه إلى مقبرة فارغة بوصفها قبر شفيقة ليبكى متولى على شقيقته الجميلة التى كان يحبها إلى أقصى درجة .

يعود متولى إلى الجيش وهناك يصطدم بشخص خسيس كان يشعر بالغيرة من رجولة متولى، وبالمصادفة جاءته الفرصة للانتقام عندما عرف أن شفيقة بعد أن لفظتها الحياة اضطرت للعمل فى بيوت البغاء فى أسيوط وعرف أنها شقيقة العريف متولى.

وحانت الفرصة عندما تحرش الخسيس بمتولى وأهانه فعاقبه متولى بصفعة قوية على وجهه، ليتصاعد الموقف الدرامى لتصيب الطعنة متولى فى الصميم من اللسان السليط الذى أعلن الفضيحة على الملأ فى خسة واضحة، ويقول الفنان الشعبى واصفاً المشهد:

” قال له بتضربنى يا جبان ؟

روح ادفن نفسك جوا جبانة

آدى صورة أختك جوا جيبى أنا

يا متولى 00يا جرجاوى”

وتدور الدنيا بمتولى عند مشاهدة الصورة ويطلب أجازة عاجلة، وفى أسيوط عرف مكان شفيقة وصعد إليها وقتلها ورفض مغادرة المكان إلا بعد أن يحضر الطبل البلدى ويزفونه كعريس فى ليلة الدخلة.

في محاكمة متولى يسأله القاضى: لماذا قتلت شفيقة يا متولى ؟ ويجيب الشاعر الشعبى بعفوية:

” قال له يا بيه أنا دمى فار

وحدانا سجره وفيها فرع مال

نقطعها ولا نخليها ؟!”

ويتخيل الموال أن القاضى تعاطف مع متولى:

” كان القاضى اسمه حسن

راجل عنده فضل وإحسان

قال له صراحة قطعه أحسن يامتولى.. يا جرجاوى”

وبذلك يصدر الحكم المخفف على متولى مراعاة لظروفه.

متولى الحقيقى

فى السبعينات قدمت الإذاعة المصرية مسلسل “شفيقة ومتولى” بطولة عبدالله غيث وسهير المرشدي وأشعار الأبنودي ومن إخراج الرائد محمود يوسف، وكان من علامات تاريخ الإذاعة، وكان المدخل يرن في الخامسة عصرا بصوت الفنان محمد حمام وألحان إبراهيم رأفت :

” ماشى يا زمن ماشى

 زى القطر القشاشى

لا أنت مخلى الراكب راكب

ولا مخلى الماشى ماشى

ماشى ف طريق غرّاقي لا بيدى ولا غاوى والناس مش عارفة ويقولوا

شفيقة قتلها جرجاوى “

من نجاح الإذاعة انتقلت القصة إلى السينما فى فيلم بعنوان “شفيقة ومتولى” بطولة سعاد حسنى وأحمد زكى وإخراج على بدرخان وجرى اللعب من خلال الفيلم على قضية السخرة فى حفر قناة السويس.

   وفى هذه الأثناء وبالتحديد فى عام 1971 ظهر متولى الحقيقى…

الخارج من السجن منذ سنوات بعيدة اضطر لإجراء حوار صحفى وحيد تحت ضغط الشرطة وحاول أن يخفى ملامح وجهه فى الصورة الوحيدة المنشورة له فى الصحافة المصرية بمجلة المصور، وفوجىء الجميع بأنه مازال على قيد الحياة وكشف الحوار معه عن مفاجآت متعددة…

متولى مجرد لقب، واسمه الحقيقى رمضان السيد جودة ويحمل بطاقة رقم 9135 مكتب سجل مدنى جرجا وهو من مواليد 1903.

وشقيقته بخيتة وليست شفيقة كما يقول الموال.

الحكاية الحقيقية أو الجريمة رواها متولى فى شىء من التفصيل ليكشف أنها تختلف عن المسلسل الإذاعى والفيلم السينمائى والموال الشعبى.

 متولى – وهو يعترف – شيخاً طاعناً، عمره يقترب من السبعين وكان غاضباً من ترديد اسم شقيقته وسط الناس.

  قال: بخيتة – شفيقة – كانت متزوجة من أحد رجال القرية وكان أكبر فى السن من متولى لكنه طلقها، لم تكن بخيتة كاملة العقل وأحياناً كانت تصاب بنوبات هياج تهجم خلالها على من يقف أمامها وتضربه، أو تلقى بنفسها من مكان مرتفع أو تتعرى، وكانت الأسرة تعالجها بالضرب والكي بالنار ووقتها كانت قرى الصعيد لا تعرف معنى كلمة طبيب.

هربت بخيتة – وكانت أول مرة – إلى بيت أحد الأقارب.. وبعد إعادتها وضربها وتقييدها بالحبال هربت إلى المجهول ولم يعرف أحد مكانها.

خفير نظامى

 رمضان ” متولى” يعمل خفيراً نظامياً فى بورسعيد، وكان عمره 25 عاماً عندما جاءه أحد بلدياته بالخبر اليقين: بخيتة فى أحد بيوت الدعارة فى أسيوط وهذه صورتها، وبعد ليلة عصيبة من التفكير يقرر رمضان أن العلاج الوحيد هو قتل بخيتة !

كانت السكين ذات الجراب الجلدى المربوطة فى الساق كحمالة موضة فتحسس متولى مكانها قبل أن يحصل على أجازة ويركب أول القطارات المتجهة للجنوب.

فى محطة أسيوط يقعد متولى ويصلى الفجر ويسأل عن مكان بيت الدعارة المقصود، وعندما وصل إلى الميدان المطلوب جلس على المقهى فى مواجهة البيت الذى تعمل فيه شفيقة مباشرة، وجلس ليرتشف الشاى، قبل أن ينتهى من الكوب سأله ماسح الأحذية عن طلباته . هيئته تدل على أنه غريب عن المكان الذى اعتاد حضور الأغراب من راغبى الحصول على المتعة . وفى تلك اللحظة ارتفع صوت ضجة فى البيت وظهرت بخيتة “شفيقة” فى الشرفة… عارية تقريباً، وقد تزينت بالأصباغ والأساور الذهبية، وارتفعت الحرارة فى جسد متولى وعندما جاءت عينا شفيقة فى عينيه لم تتعرف على ملامحه.

   ويضيف رمضان ” متولى “: لم أعرف هل دفعت ثمن المشروب أم لا.. وقمت كالنائم من المقهى واندسست داخل البيت.. وصعدت إلى الطابق الثالث، وهناك شاهدت صورة كبيرة لبخيتة ” شفيقة ” على باب إحدى الغرف.

ولا أدرى بعد كم خطوة وصلت إلى غرفتها..وعندما دخلت كانت تقف فى الشرفة.. واستدارت لتجدنى فى قلب غرفتها.. لا يفصلنى عنها سوى خطوة.. تجمدت ملامحها وتخشبت أطرافها.. وخطوت نحوها فإذا هى ميتة تماماً..كل ما فى الأمر أنها ماتت واقفة.. انحنيت لألتقط الخنجر فلم تتحرك من مكانها ولم تصرخ..اندفعت نحوها وطعنتها فى عنقها فلم تتنفس ولم تقاوم الطعنات..فقط مالت بظهرها إلى الحائط فطعنتها بضربة ثانية وثالثة فى صدرها.. ضربات ثمان وتفجرت الدماء.

زفة الموت

غائباً عن الوعى كنت وانتبهت على ارتفاع صرخات الناس وهرب الجميع وأغلقوا باب الغرفة من الخارج بالمفتاح، وكان واضحاً أن عندى رغبة فى ذبح الجميع، ووقفت فى الشرفة لأصرخ: أنا غسلت عارى وعلى استعداد لتسليم نفسى بشرط أن يزفنى الطبل والمزمار !!

بقيت من العاشرة صباحاً فى مكانى إلى الثانية ظهراً..جاءت الشرطة وأخرجونى وبعد ثلاثة أشهر حكمت محكمة جنايات أسيوط علىّ بالسجن 5 سنوات، قضيت منها ثلاثة أعوام ونصف فى معتقل أبو زعبل وخرجت فى 1930 لأقضى خمسة عشر شهراً تحت المراقبة .

  بعد خروجى فوجئت بأن الكل يتهامس من حولى، وتمنيت أن أفقد سمعى إلى أن فقدته بالفعل.. وانفصلت عن ألسنة الناس التى لا ترحم.   من المشاهد المؤثرة التى لا تنسى أن المذيعة الراحلة أمانى ناشد نجحت بعد هذا الحوار فى إجراء المقابلة التليفزيونية الوحيدة مع رمضان أثناء عرض فيلم “شفيقة ومتولى”، وكان الرجل غاضباً إلى أبعد الحدود وغير راغب فى الكلام، وعندما سألته أمانى ناشد: هل لو كانت شفيقة حية اليوم سيكرر قتلها؟، كان الرجل شيخاً طاعناً فى أواخر أيام حياته، واستعاد السؤال عدة مرات لأنه لا يسمع، وفى النهاية قال بصوت خشن أجش: ” أقتلها..أقتلها..ألف مرة ” !!

اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق